من أسرار الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

من أسرار الحج

 

 

        الحج ركن من أركان الإسلام، لا يصح دين مسلم ولا تكتمل عقيدته إلا باعتقاد ذلك، ولكن الله تعالى رؤوف ورحيم بعباده فاقتصر هذا الفرض على من استطاع إلى أدائه سبيلا، فليس على المريض، ولا العاجز، ولا الشيخ غير المستطيع، ولا الفقير غير القادر مالياً حج لازم. قال عز من قائل: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاًً). وهذا دليل قاطع على سعة هذا الدين وعظمته وأنه مبني على الرفق بالعباد ورفع الحرج عنهم، فصدق الله تعالى القائل: (وما جعل عليكم في الدين من حرج). فلا يبأس من لم يُقِّدر الله له أداء هذه الفريضة لأي عذر كان، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله تعالى هو الكريم الرحيم.

 

        إن الحج مدرسةُ عظيمة في العبودية الحقة لله تعالى، وكسرِ النفس له إعلاناً لألوهيته وحده لا شريك له، فالحج رمز للتوحيد، والإخلاص، ومسارٌ مستقيم لإصلاح النفس والسلوك والأخلاق، وتعلم جميل القيم والصفات. فأول ما يبدأ به الحاج رحلته التوبةُ النصوح إلى الله تعالى، وردُ المظالم وقضاء الديون، والودائع، وتأمين النفقة لكل من تجب عليه نفقته إلى وقت رجوعه. وفي هذا كله حكم جليلة؛ فالتوبةُ تجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وردُ الحقوق إلى أصحابها والرجوعُ عن المظالم وطلبُ المغفرة يُؤذِنُ بحياة جديدة يبتغي صاحبها التخلص مما كان عليه قبلها من الخطايا والذنوب، وينوي تصحيح مساره مستقبلاً إلى آخر ما كتب له من عُمر.

 

        ومن بركات السفر إلى الحج تهذيبُ نفسِ المسلمِ من مساوئ الأخلاقِ كالضجر، والسخط، وسوءِ الرفقة والتعامل، وبذيِ القول وسيءِ العمل. فهو بمثابة دورة تدريبية من استقام فيها وجاء بالواجب الشرعي فيما يتعلق بالسلوك وحسن المعاملة استقر بعون الله على هذا الصلاح، قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، ولذلك فإن على الحاج أن يراقب كلامه وسلوكه، ويضبط ردود أفعاله طيلة هذه الرحلة التي فيها من الابتلاء والمشقة ما يُسفر عن معدنه وما في باطنه، فقد قيل السفر يسفر عن معادن الرجال، فمن كان حسنَ الخلق في السفر، كان أحسن من ذلك في الحضر، من باب أولى، وقد قيل أيضاً: "إذا أثنى على الرجل معاملوه في الحضر، ورفقاؤه في السفر، فلا تشكُّوا في صلاحه".

 

        إن من أهم أسرار الحج أنه يحقق غايةً رفيعةً يبتغيها كل مسلم مخلص وهي الوصول إلى رضا الله تعالى، وهي لا تكون إلا بالتجرد والانفراد لخدمته وعبادته سبحانه، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "كان الرهبان ينفردون في الجبال طلباً للأنس بالله، فجُعِل الحجُ رهبانيةً لهذه الأمة".

 

        إن لكل فعل من أفعال الحج تذكرةً وعبرةً للمعتبر، فعلى كل حاجٍ أن لا ينسى الاعتبار بها. ومن ذلك أنه إذا ما حصَّل زاد الرحلة وأعد مأونتها، فعليه أن يتذكر التزود للآخرة، بالخالص من الأعمال الصالحة. وإذا ما فارق موطنه وأهله، فعليه أن يتذكر الموت ومفارقة الدنيا، وإذا ما تجرد عن ثيابه ولبس الإحرام، فعليه أن يتذكر تجردَه عنها، ولبسَه الكفن عند موته، وأنه سيلقى ربه بزي مخالف لزي أهل الدنيا. فإذا ما بدأ الحاج الطواف واستلم الحجر الأسود فعليه أن يستشعر أن هذه بيعة منه لله تعالى على الطاعةِ وحسنِ الانقيادِ ودوامِه، فإذا ما سعى بين الصفا والمروةِ، فيجدر به أن يتذكر كفتي الميزان والحسابَ يوم القيامة، وحالَ الناس في ذلك اليوم من تردد وذهاب إياب في انتظارهم للحساب، أما في وقفة عرفة، فعلى الحاج أن يذكر حشر الناس من جميع الأمم لربهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. وأما عند رميه الجمار، فينبغي على الحاج أن يستحضر واجب التسليم والانقياد لله الواحد القهار، انقياداً للأمر، وإظهاراً  للرق والعبودية، وتطويعاً للذات على الامتثال لله وحده من غير حظ النفس، وبذلك يظهر تمام العبودية.

 

إن العلم بهذه الأمور والآداب والأسرار غاية في الأهمية، فالإسلام لا يقر آلية العبادة، أي أن يَعبُدَ المرءُ ربه بتطبيق الأحكام الشرعية، ويأتي بالمناسك المختلفة بشكل بدني محض معزولٍ عن الروحانية والصلاحِ والاستقامة، بل عليه أن يعلم أن العبادة لها هدفُ سامي وملزمٌ، وهو تصحيحُ السلوك والمسار، والوصولُ إلى تقوى الله تعالى وهي مرتبة واجبة على كل مسلم لا يكون بدونها على الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لعباده في هذه الحياة الدنيا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له)، وهذا ينطبق على كل العبادات ومنها الحج، قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، والعبادة ومنها فريضة الحج سبيل للتقوى وتزكية النفس، قال عز وجل: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)، والتقوى ملاك الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، فالله تعالى يقول: (ومن يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).

 

        نسأل الله تعالى أن يحعلنا ممن يستمعون إلى القول فيتبعون أحسنه.

 

 

 

د. عدنان محمود العساف

مدير المركز الثقافي الإسلامي – الجامعة الأردنية