كليّة الشّريعة/ الجامعة الأردنيّة
للحوار قيمة سامية في الإسلام، فهو يشيع المحبة،
والألفة، والتّعاون في المجتمع، وهو وسيلة تخاطب بين الأفراد، وكذلك بين
المجتمعات.
وأكّد القرآن الكريم على هذا المبدأ النبيل بين الشعوب،
حيث نزلت آيات كريمة تحثّ الرّسول صلى الله عليه وسلّم على الحوار مع جميع النّاس،
وبالأخصّ أهل الكتاب، فقال تعالى:" ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ
عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ سورة النّحل: الآية125]،
وقال تعالى:" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ" [ سورة العنكبوت: الآية46].
ورسّخت التّطبيقات النّبويّة مبدأ الحوار من خلال
ممارسات الرّسول صلى الله عليه وسلّم له في مكّة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، ومع
الشّعوب الأخرى، حيث شهدت المدينة المنوّرة أول حوار بين الإسلام، والمسيحيّة،
واليهوديّة عندما خاطب الله تعالى الرّسول صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:"
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [ سورة آل عمران: الآية64].
ومن الجدير بالذّكر أنّ النّزعة الإنسانيّة من أهمّ
مقوّمات الحوار في الإسلام، منطلقة في ذلك من وحدة الجنس البشريّ، لتشمل هذه
النّزعة جميع النّاس دون النّظر إلى الأعراق، والأجناس، والألوان، والطّبقات،
واللغات، والحضارات، والثّقافات، والأديان، والمعتقدات، والشّرائع، قال
تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" [ سورة النّساء:
الآية1].
وعملاً بذلك، فقد بادر الرّسول صلى الله عليه وسلّم فور
وصوله إلى المدينة المنوّرة باتّخاذ إجراء واقعيّ تمثّل في المؤاخاة بين المهاجرين
والأنصار، حيث أثنى الله تعالى على هذا المنهج بقوله:" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [
سورة الحشر: الآية9].
كما قام بكتابة وثيقة المدينة التي تُعدّ أول وثيقة
تقرّر المساواة في الحقوق والواجبات والحريّات بين ساكني المدينة المنوّرة من
مسلمين، ويهود، وتنظّم العلاقات الإنسانيّة بينهم، وذلك تحقيقًا للأمن، والأمان،
والاستقرار في المجتمع المدينيّ.
وارتبطت هذه النّزعة الإنسانيّة في الإسلام بمبادئ
الرّحمة، والأخوّة، والتّعاون، والخير، والتّكافل. قال تعالى:" وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" [ سورة الأنبياء: الآية107]،
وقد اقتدى الصّحابة رضي الله عنهم بمبادئ الرّسول صلى الله عليه وسلّم، فنجد أنّ
أهل عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا ذبحوا شاة، فقال لهم: هل أهديتم لجارنا
اليهوديّ؟ قالوا: لا، قال: فابعثوا إليه منها، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم،" يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورّثه"
رواه البخاريّ.
ومن مقوّمات الحوار التّسامح، حيث أشار القرآن الكريم
إلى ذلك في مواقف عديدة منها: العقيدة، فترك لأهل الكتاب وغيرهم حريّة التّديّن،
واختيار معتقداتهم، وممارسة شعائرهم، لقوله تعالى:" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [ سورة البقرة:
الآية256]، كما أنّ العهدة العمريّة التي كتبها عمر بن الخطّاب لأهل بيت المقدس
شاهدة على العهد الذي تضمّن حماية أنفسهم وأموالهم، والسّماح لهم بممارسة معتقداتهم
وطقوسهم بكلّ حريّة.
كما يُعدّ احترام الآخر من مقوّمات الحوار في الإسلام،
إذ عمل على تجسيد هذا المبدأ على أرض الواقع بتوفير أرضيّة موائمة لذلك من خلال
النّصوص القرآنيّة والنّبويّة، فقد أمرت النّاس بالابتعاد عن العنصريّة والعرقيّة،
فقال تعالى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [ سورة
الحجرات: الآية13]، وقوله صلى الله عليه وسلّم" أحبّ النّاس إلى الله تعالى
أنفعهم للنّاس" رواه الطبرانيّ، وقول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:" متى
استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، كما تجلّى هذا المبدأ في بلال
الحبشيّ، وصهيب الرّوميّ، وسلمان الفارسيّ رضي الله عنهم الذين أصبحوا من خيرة
الصّحابة.
وهكذا، فإنّ الحوار من شأنه أن يسهم في التّعايش،
والتآلف، والتّضامن بين المجتمعات والشّعوب والأمم، ويفتح آفاقًا كبيرة من أجل أن
يفهم كلّ واحد الآخر، وأن يعزّزوا العمل المشترك بما يعود بالنّفع على المجتمع
الإنسانيّ كلّه.