​في ليلة القدر.. سِرُّ الغيب وحكمة الإخفاء

في رحاب ليالي رمضان المعطرة بذكر الله ومناجاة العابدين، تتخفى ليلةٌ، بين الليالي، ذات شأنٍ عظيم وقدرٍ جليل، هي ليلة القدر، التي وُصفت بأنها "خيرٌ من ألف شهر"، كما أخبر الحق في محكم التنزيل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3]، وقد اختصها الله بميزة الغيب، فلم يُعلم بوقتها تحديدًا، إلا أنها في الوتر من العشر الأواخر، كما دلت الأحاديث الشريفة.

هذا الإخفاء الإلهي لوقت ليلة القدر لم يكن عبثًا، بل لحكمة بالغة، تدعو النفوس إلى رفع رايات الاجتهاد في كل العشر، وتحفز القلوب على التأهب واليقظة، طمعًا في نيل هذه الليلة العظيمة، فكما أن الغيث ينزل على الأرض بلا ميعادٍ معلوم، كذلك هي ليلة القدر، تُهدي بركاتها لمن تجده قائمًا في محراب العبادة، متلبسًا بلباس التقوى والإخلاص.

وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" (متفق عليه)، مما يفتح للمسلمين بابًا رحبًا للعبادة والدعاء والتقرب إلى الله في هذه الليالي المباركة.

وتتنزل الملائكة والروح في هذه الليلة، بإذن ربهم بكل أمر، كما أخبر الحق في كتابه: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، فتكون الأرض مسرحًا لهذا النزول الإلهي، وتتحول الأجواء إلى لوحةٍ روحانيةٍ، يملأها السلام والطمأنينة، حتى مطلع الفجر.

إن تعدد أشكال العبادة في هذه الليلة، من قراءة القرآن والقيام والدعاء والاستغفار والصدقة، يجسد تلك الروحانية العميقة، التي تفتح القلوب على مصاريعها لنفحات الرحمة الإلهية، فالمسلم في ليلة القدر كالبحّار في عرض البحر، ينشد الشاطئ الآمن، متخذًا من الأعمال الصالحة سفينته، ومن الدعاء شراعه، يرجو النجاة والفوز بالجنة.

وتُضفي حكمة إخفاء وقت ليلة القدر على المؤمن درسًا في الإلحاح والمثابرة، فهو لا يعلم أي الليالي هي، فيزيد من فرصة التعرض لنفحات هذه الليلة المباركة بكثرة العبادة والدعاء. وكأن الله يعلمنا أن العبادة ليست مرتبطة بزمان محدد أو مناسبة خاصة، بل هي سلوك دائم ونهج حياة.

يُذكّرنا إخفاء هذه الليلة أيضًا بأن عبادة المسلم لا ينبغي أن تكون روتينية أو محدودة بأوقات معينة، بل يجب أن تكون عبادته مستمرة، تتجدد نواياه ويتجدد أمله في كل ليلة بأنها قد تكون ليلة القدر، مما يعلي من شأن الإخلاص والتفاني في طاعة الله.

وفي ظلال ليلة القدر، يتجلى معنى الجهاد النفسي، حيث يُكثف المسلم من جهوده الروحية، متحديًا وساوس النفس وإغراءات الدنيا، ساعيًا نحو تحقيق الطهر الروحي والتقرب الأقصى من خالقه، مستشعرًا عظمة الزمان وقدسية المكان في هذه الأمسيات الرمضانية.

لنجعل إذن من ليلة القدر ومن الأيام المباركة التي تحتضنها، منارة تهدي سبلنا في ظلمات الحياة، وتذكيرًا بأن كل لحظة في حياة المسلم يمكن أن تكون فرصة للفوز برضوان الله وجناته، إذا ما اتُخذت في طاعته والسير على نهج نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، متأملين في عظمة الله وحكمته، مستشعرين جمال الحياة التي تتجلى في كل لحظة عبادة وكل دعوة صادقة.