((ربيع بلا انتهاء))

على الرصيفِ

   يتسللُ ضوء صباح جديد ليغمرَ كل من يحس به بدفءٍ ينمُّ عن أمان ، تتفقس بيوض صغيرة وضعت في عش بُنِيَ من قشٍ و حنانٍ على شجرة أجاص يحتلُّ النوّار أكبر جزء منها ، تتفتح الزهور النضرة متناثرةً على مد البصر في السهول و في الجبال بألوان قوس قزح المريحة...

   كل هذا أعطى للأرض إلهامًا لتُحدّثَ جارتها (الزُهرة) عن حدثٍ كان فيما مضى حديث الناس و الصحف...

و كعادتها (الزُهرة) تحبُ هي الأخرى (طق الحنك).

    بدأت الأرض تقُصُّ حكايتها على الزهرة - التي بدت في قمة الإنصات - " في اليوم الذي يسبق يوم العيد، كان بشار ابن الثلاثة عشر عاما عائدا من مدرسته القريبة من البيت ماشيا على أقدامه، وكان عليه قطع الشارع المزدحم بالسيارات و الناس الذين يحاولون العبور، والذي كان يفصل بينه و بين بيته.

    كان يشعر بعطش شديد قبل خروجه من المدرسة، و لكنَّه الآن صار يشعر و كأن حلقه أصبح قطعة من حطب.

  آه ... ليس ذنبي أن مدرستي تقع على شارع رئيسي... قال في نفسه، كان هذا قبل أن يرى امرأة عجوزا أنسته شعوره بالعطش؛ حيث أنها استحوذت على شفقته و تفكيره معا...

    كانت تقف على الرصيف المقابل له مع الكثير من الناس ، و ليس هنالك من يكلف نفسه عناء مساعدتها.

    أراد بشار مساعدتها، وما إن قطع الشارع ، ووصل إلى الرصيف الذي كانت تقف عليه حتى كانت قد اختفت عن أنظاره، بحث عنها ببصره و لم يجدها؛ فقال في نفسه: لعل أحدًا ما قام بمساعدتها، أو لعلها استطاعت العبور وحدها دون مساعدة أحد.

    على أيّ حال كان سيعبر الشارع للوصول لهذا الرصيف؛ حتى يصل الى بيته الذي بات قريباً جداً. عند وصوله سألته أمه عن سبب تأخره ..... فرد قائلاً :

-      لولا تدخل شرطة السير لما تمكنت من الوصول إلى الآن... أنا لم أرَ في حياتي مثل هذا الازدحام !

-         سوف تعتاد عليه؛ نحن نعيش في مدينة تكبر يوما بعد يوم و تزداد ازدحاما، أنسيت؟! ثم قالت (محاولة تغيير الموضوع) سوف أخرج أنا و والدك و إخوتك للسوق لشراء حلوى العيد،  بدّل ثيابك لتأتي معنا.

-         سوف أستحم أولا؛ إنني أتصبب عرقا.

-         الجو حار اليوم...

-         لا يا أمي، الجو حار كل يوم في العقبة، و لكنه (حارق) اليوم... أتساءل عن أجواء مدينة جرش الآن، ليتنا لم ننتقل للعيش هنا؛ كم أشتاق لأصدقائي...

لكنَّ أمه لم تعر كلامه انتباهاً وتحديدا جملته الأخيرة.

    كان هذا آخر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، و هو اليوم الوحيد - خلال هذا الشهر- الذي لم يأخذ فيه بشار (قيلولة الظهيرة)؛ و ذلك لضيق الوقت؛ فعند عودتهم من السوق كان على الأم تحضير الفطور، و على الأب و الأبناء المساعدة في تنظيف و ترتيب البيت استعدادا لاستقبال الأقارب و الأصحاب غدا... "

   فجأةً قاطعت الزهرة الأرض قائلة : أنا أحسدُكِ لأنك لا تَملينَ أبدا...

-         و كيف أمِلُّ؟!؛ و كل هؤلاء الناس فوق ظهري، وعند كل واحد منهم العديد من القصص!!

-         اعذريني على مقاطعتك، تابعي و سأحاول ألا أقاطعك مرة أخرى...

تابعت الأرض حديثها غير مكترثة لاعتذار الزهرة .........

-  " في يوم العيد خرج بشار مع أخته الصغيرة من البيت، حتى منتصف الطريق، حيث أوصلها الى بيت صديقتها الجديدة (حلا).

سخر من نفسه؛ فأخته التي تصغره بعامين كوَّنت لنفسها عدة صداقات، فيما لم يفلح هو في كسب صديق واحد جديد...

    رآها مرة أخرى... إنها نفس العجوز التي رآها البارحة في طريق عودته من المدرسة، تقف على نفس الرصيف، تقدَّم نحوها ، ووقف أمامها دون أن ينطقَ بكلمة ، كان الشارع مليئاً بالناس، و لكنه لم يكن مزدحما كما كان البارحة.

بادرت بسؤاله: هل تعرفني ؟

-          لا...

-         (بكل ثقة) بلى تعرفني ، أو لنقل أنك تحاول أن يحصل ذلك؛ لقد رأيتك البارحة...

قال: (و قد فهم قصدها) كنت أريد أن أساعدك في عبور الشارع، و لكنك اختفيت فجأة عن أنظاري...

-         (تضحك) و هل أبدو ضعيفة الى هذا الحد؟

ضحك بشار و لم يعرف بماذا يجيب، حتى قالت له: أشكرك يا بني.

-         عفوا...

-         أظنك ذاهباً في زيارة ؟

-         لا؛ أوصلت أختي فقط، و أنا في طريق عودتي للبيت الآن. إذا أردت تفضلي و زورينا...

-         (تضحك) أنا لم أعرف اسمك حتى! أليس لديك أصدقاء؟

ظهرت على وجهه معالم الحزن رغماً عنه حينها :

- و لا حتى صديق واحد...

-         أعتقد أننا سنصبح أصدقاء...

    تمشيا معا في شوارع العقبة، و حدَّثها عن نفسه، و حدثته عن نفسها و عن أولادها...

     كانت تعرف الكثير من الأماكن الجميلة في هذه المدينة، حكت لبشار عنها في أثناء سيرهما، إلاَّ أنَّ بشار لم يحدّثها عن أي منطقة من المناطق الجميلة التي يعرفها في جرش.

   عرف منها أيضا أنها تقطن في إحدى الشقق في (عمارة) مقابلة (للعمارة) التي يقطنها هو و عائلته، و أنها تعرفه منذ أن رحلوا الى هنا؛ حيث أنها كانت تراه كل يوم ذاهبا للمدرسة، و عائدا منها.

-         مع من تسكنين يا خالة ؟

-         وحدي

   جوابها كان سريعاً لكنه شعر بنغمة الحزن التي غلَّفت صوتها حين أجابت، فقال بسرعة محاولاً الخروج من هذا الموقف المحرج:

لا أريد أن أربكك و أعطل مواعيدك؛ فاليوم عيد، و الوقت ضيق.

-         ليس عندي مواعيد.

-         إذا أنت تعيشين وحدك في هذه المدينة...

-         كلا؛ فأولادي يعيشون هنا أيضا.

    حدَّق فيها مستغربا. فهمت سبب استغرابه فسألته : أتعرف ما هو برّ الوالدين؟ لم تنتظر إجابة منه و تابعت: لا شك أنك تعرفه؛ فموقفك معي يدل على ذلك ، لكن هل سمعت بعقوق الوالدين؟...تهدَّج صوتها قبل أن تصمت سارحة بأفكارها...........  تذكرت بحزن والدتها ، لكنها تابعت كلامها: كان عندي أم لا مثيل لها، ولكني لم أكن أبرُّها، و بعد زواجي لم أزرها الا عندما اشتد مرضها الذي ماتت فيه. و أنا الآن أرى أولادي يعاملونني كما عاملت أمي... "

عندها سألت الزهرة الأرض بلهفة:  و ماذا حصل بعد ذلك؟               

كل من يسير فوقي يعرف ماذا سيحصل...( تمتمت الأرض هامسةً )

    نظرت الأرضُ مبتسمة إلى إحدى النيازك المقتربة من الزهرة وقالت : إن كل من يسير فوقي يعلم أن ما يفعله الابن مع والده يلقى مثله من أبنائه.

و تابعت حديثها للزهرة: أعتقد أنك ستنشغلين عني بزائر صغير ...

    لقد صدقت الأرض حين قالت: كان في ما مضى حديث الناس و الصحف، و لكنه ما زال  إلى الآن كذلك !...

 

أخوهُ

     لم تأذن - الشجرة - لبناتها حبات البلوط الثلاث اللعب في المكان الذي كنّ قد اخترنه؛ احتراماً لما أقيم في يوم من الأيام عليه؛ فسألن أمهن عن السبب وراءَ ذلك و تحلقنَ حولها مبديات حسن استماع لما ستقوله...

     قالت: " أشار الأولُ بأصبعه إلى الشّمس التي تَوسطت السّماء، ثم أشار إلى المَشرق ثم إلى المَغرب، ثم ضمّ يديه و بعد ذلك فتحهما على اتساعهما...

    فهم الآخر أنهُ يقصد أن اليوم سيكونُ طويلاً؛ فهزّ رأسه موافقاً، ثم وضعَ يده على جبينه كمن يمسح عرقه من شدّة التعب ليوصل للأول أن اليوم كذلك متعبٌ.

     ما لبثا يتبادلان الابتسامة حتى علا صوتٌ مزقَ السكينةً التي غطّت الموقف: هيا إلى العمل يا نصابين؛ تنصبان عليّ لأدفعَ لكما بلا تعب يُذكَر...

    علقَت كلمةُ ( يُذكَر) في ذهن الآخر و بقي يردّدها في نفسه قليلاً... يُذكَر...يُذكَر... يُذكَر لمن؟

      تبادلا النظرات؛ فعادَ نفسُ الصوت مرّةً أخرى: بماذا تحدقان كالأخرقين؟!... هيا عودا للعمل...

     شَعَرَ الاثنان بأنّ الصّوت يمزّقُ أحشاءهما هذه المرّة، و سرعانَ ما عادا للبلوط يُقَطّعانه و بعد ذلكَ يدفنانه تحتَ الأرض ليَحتَرقَ ببطء مُتَحولاً إلى فَحم.

    في الاستراحة سَرَحَ كل منهما في أفكاره... الآخر يُجيبُ عن السؤال الذي طرحه سابقاً مردداً: لن نعيشَ لنَذكر شيئاً لأولادنا، سنموت جياعاً مشردين بلا زواج أو أولاد!... أما الأول فكان يخطط في نفسه أنّهُ كيف سيكملُ دراسته الثانوية و يتابع بعدَ ذلك دراسته الجامعيةَ و يحصل على شهادة ثُمّ على عمل يهيئ له شراء منزل في مدينة مجاورة، يعيش فيه مع أبيه و أخيه...

   لم يكد تفكيره يصل إلى هذه النقطة حتى علا صوتُ رئيسهما: هيا عودا للعمل...

   في المساء عادا للبيت و في يد الأول عدّة أرغفة من الخبز و الآخر يحمل بضع حبات من الطماطم، كانا مُنهَكين و لكنهما حَضّرا العشاء لوالدهما المشلول و تناولا طعامهما البسيط و خلدا للنوم...وضع كل منهما رأسه على وسادته و عادت الأفكارُ لرأس الآخر بينما استغرقَ الأول في النوم، تذكرَ الآخر والدته قبل وفاتها و كيفَ كانت تعّد له عشاءاً شهياً، و تذكّر أنها ماتت في حادث السيارة نفسه الذي شُلّ والدهُ فيه.

   بكى بصمت عندما تذكر مواساة أمهُ له و لشقيقه التوأم عندما كان زملاؤهم يسخرونَ منهما كلما لعبا معهم لأنهما أخرسان.

    ايقظ الأول الآخر بعد ظهيرة اليوم التالي و هرعا إلى عملهما. كانا يعلمان أنهما تأخرا عن عملهما كثيراً... و لكن ما باليد حيلة؛ فقد أتعبهما يومُ البارحة كثيراً.

    عند وصولهما بحثا عن رئيسهما، و عندما وجداه  حاول الأول افهامه بحركات يديه و عينيه سبب تأخرهما؛ حيث أنه تثاءبَ و أغمضَ عينيه ثم فتحهما على اتساعهما و نظر إلى معصم يده كمن يفاجئ بالساعة مع أنه لم يكن يرتدي ساعةً أصلاً!

     قال الرئيس بازدراء - و قد فهمَ ما حاول الأول أن يقولَهُ-: لو تعاطفت معكما لتوجبَ عليّ التعاطفُ مع باقي العمال هنا. و تابع بمكر: سوف تعوضان ما فاتَ من يومكما الليلة.

    أشارَ الأولُ إلى الاتجاه الذي يقعُ فيه بيته و حاولَ افهامَ رئيسه أن والدهما العاجزَ سيكونُ بانتظار عودتها في المساء، ولكن رئيسهُ لم يبد أيّ اهتمام.

   حَلّ المساءُ و بدآ و عمالٌ آخرونَ حراسة المفحمة. الجو البارد جَمّعَ كل من يقوم بالحراسة في مكان واحد وقد أوقدوا ناراً وبدأوا يتحاورونَ فيما بينهم في شؤون اقتصادية مقلدينَ أسلوبَ رئيسهم الجشعُ و الآخرُ يُشاركُ بحركات مُعبرة.

    قام أحدهم بتقمص شخصية الرئيس الطّماع و هو يعامل العمّال بقسوة، و لكن الأول لم يشأ مشاركتهم، بل وحاولَ منعهم؛ فمنذ كان صغيراً و هو يَكرهُ أن يُذكَر شخص بما يكرهُ في غيابه، و لكن لم يُعرهُ أحدٌ انتباهاً، إلا توأمه الآخر. انصرف التوأمان عن الجمع المتحلق حول النار؛ فهما مع كرههما للرئيس لا يرغبان في أحاديث الغيبة و النميمة المتعلقة بشخصه الكريه، و فضّلا الجلوس في البرد.

  و ضع الأول كفه اليمنى على ذراعه اليسرى و كفه اليسرى على ذراعه اليمنى و قام بالفرك المستمر يريد أن يقولَ لأخيه أنه يشعرُ بالبرد. اقترحَ عليه الآخرُ أن يقوما بالتقطيع؛ فتدفئهما الحركة المستمرةُ، و فعلاً باشرا بذلك، و بدآ يتحسسان الدفء شيئاً فشيئاً.

ضرب الأول فأسه في إحدى الأشجار الضخمة المتيبسة، هذه أول مرة يتعامل فيها مع شجرة متيبسة... سقطت بسرعة، لم يستطع تفاديها...

   وقعت عليه، صرخ متألماً و سمعه الآخر فانطلق إلى حيث صوت أخيه و الذي لم يكن قد ابتعد عنه كثيراً. فوجئ به عالقاً تحت شجرة عملاقة بالكاد يستطيعُ التّنفس، أسرع إليه و حاولَ ازاحة الشجرة عنه و لكنه لم ينجح إلا في زيادة ألمه؛ تحسسه محاولاً تهدئته و التخفيف من ألمه، ثُمّ عاد إلى حيث يجلس باقي العمال الذين يقومونَ بالحراسة، فنادوا على من كان يعمل على التقطيع أيضاً و تبعوه إلى المكان المقصود، وحاولوا ازاحة الشجرة عنه، و لكنهم زادوا الأمور تعقيداً و عرضوه للألم الشديد... في النهاية أخرجوه من تحتها و هو بحالة صحية حرجة.

   قال أحد الواقفين: سيموت إن لم نسعفه بسرعة، و بسرعة جاء اقتراح أحدهم: لنحضر طبيباً...

   انطلق جمعٌ منهم إلى المدينة المجاورة حيث الطبيب مشياً على الأقدام... لعنوا رئيسهم الذي لم يترك لهم و لا حتى دابة واحدة للأمور الطارئة؛ إنها حاجة ملحة.

   حتى الخشب يتوجب عليهم حمله على ظهورهم!، ليتهم اعترضوا على هذا من قبل... لو اعترض أحدهم لفصله الرئيس!... ما باليد حيلة. 

   بقي الآخر عند الأول ينظر في عينيه و يمسك بيديه، و يفكر بحال والده الذي إذا حدث مكروه لأخيه... سيحزن طوال عمره، و قد يموت لشدّة حزنه - لا سمح الله - .

    تبادلا ابتسامات و نظرات... نظرات الأول كانت مليئة بدموع الألم و نظرات الآخر كانت مليئة بدموع الحزن، كان الأول يَبتسمُ رغمَ ألمه و الآخر رغم حزنه.

     بدأت الشّمس تشرق... نظر الآخر باتجاه المَشرق و تذكّر الأولَ قبل يومين و هو يشيرُ باتجاه الشرق ليقول له أن اليوم طويل... نَظرَ إليه مرّة أخرى، انتظر أن يبادله النظرة نفسها... و لكن شيئاً لم يحصل؛ عيناه مفتوحتان و لكنه لا يرمش.

  بكى عليه بصوت عالٍ و بكى كل الموجودينَ، حصلَ ذلك لحظةَ وصول الباقينَ مع الطبيب فبكوا أيضاً و بكى الطبيب..."

  نامت حباتُ البلوط بقرب أمهن فقالت و هي تعدّل نومتهنّ: الشجرةُ التي وقعت هي جدتكن...

 

 

        ما زالت تَذكُرُ و تَتذكّرُ، و كلما تَألّمت روحها تألّم جَسدُها...

        في بداية تَعارُف تمارا و سارة، لم تَكونا قد تَقارَبتا من بعضهما كثيراً؛ حصلَ التعارفُ عندما قامت معلمة مادة الرّياضّيات للصف السابع بتبديل أماكن طالبات الصّف و تفريق الصّديقات عن بعضهن؛ و لاسيّما اللواتي يكثرنَ من الكلام في حصتها، و لكنها لم تَعرف أنها عند إجلاس تمارا و سارة بجانب بعضهما ستكوّنُ أقوى رابطة صداقة حصَلَت في التّاريخ!..

      شاءَتْ الأقدارُ أن تجعلهما بنفس الصف في العام القادم، و الذّي بعدَهُ، و الذّي يليه... دائماً كنّ مع بعضهن، لدَرَجَة أنّ بعضَ الفتيات سأَلن ما إذا كانتا تطلبان أن تكونا بنفس الصف كلَّ عام، و الإجابة هي أنّ القَدَرَ أرادَ ذلك.

     و كما شاءَ القدرُ ذلك، شاءَ أن تدرس تمارا صيدلةً في الجامعة، بينما تخصصت سارة في نُظم الإدارَة المعلوماتية. و بذلكَ يَكونُ قد فرقهما لأول مرة منذ أن عرفهما على بعضهما...

     مع مرور الأيام بدَأَت علاقتهما تفتر؛ و خاصة عندما اختلَفَت أوقاتُ دوامهن الجامعيّ...

    النّظًرُ في صورَة تمارا لن يَكفي سارة، و تمارا لن تَكتفي بإجراء اتصال هاتفي مع سارة.

    قرّرتا أن تلتقيا في حفلة ستقيمها إحدى الصّديقات، و كلٌّ منهما كانت متلهفة للقاء الأخرى. و في يوم الحفلة ركبت سارةُ سيارتها و توجهت إلى منزل تمارا كما كانتا قد اتفقتا من قبل... دَقائقُ حتى وصلتا بيت الصّديقة الذّي ستقام فيهِ الحفلة.

     ما إن وصلتا المكانَ المرادَ حتى رنَّ هاتفُ سارة تريد أمها منها إحضارَ شيء ضروري من منزل عمها و العودة به للبيت...

     استأذنت سارة من تمارا و أخبرتها أنها ستحاولُ ألا تتأخرَ عليها و على الحفلة، و ذهبت في طريقها تلبي ما طُلِبَ منها.

    دَخَلَت تمارا وحدها و عندما سُئلَت عن سارة أخبرتهم أنّها سَتعودُ بعدَ أن تُنهي ما طلبتهُ والدتها منها في طريقهن إلى هنا على الهاتف....

       عَلَت أصواتٌ شَوشت صوتَ أغنيةِ الحفلِ؛ فجاءَ صوتٌ: " مسكينةٌ هي سارة..."، و جاءَ آخرُ: " لو كانت حيةً ستعيش مشلولةً..."

       بَقيت الأصواتُ تَعلو و تُشَوِّشُ صوتَ الأغنيةِ، بينما راحت تمارا تَشعُرُ بتيارٍ كهربائي خفيفٍ يجولُ في جسدها؛ و يُحَرِّكُ لسانها و تقول: ليتني أنا...

     التقت تمارا مع كل من كانت في الحفلةِ في المستشفى. سأَلَ الطبيب المشرفُ على حالةِ سارة تمارا - دون باقي الصّديقات - التي لفتت انتباهه بشدّةِ ارتباكها: بماذا تشعرين؟

    أخذَت نفساً عميقاً من أنفها و زفرتهُ من فمها و أصدرت رغماً عنها بفعل ما فعلته كلمةَ " إف " خفيفةً تحملها موجاتٌ حارةٌ و قالت بمرارة: أشعرُ بالقلق على صديقتي...

    أعادَ الطبيبُ سؤالها بلهجةٍ أخرى؛ فأَجابت: أشعرُ بألمٍ عظيمٍ...

     شَعَرَت أنّ الطبيبَ كانَ منذ البدايةِ يمهدُ لقولِ شيء ما و لكن مجيء الممرضة سهّل الأمرَ كثيراً؛ حيثُ قالت - و بلا مقدماتٍ - : عليك أن تعيني أهلها بالصبر و تَسـتعيني بهِ...

      غَزَت كلماتُ الممرضةِ الرقيقةِ، كالأشواكِ الخشنةِ قلبها الطري و لكنها قالت في نفسها أنّ عليها حمدُ الله على أيّ شيء، و كلِّ شيء...

    تابعَ الطبيبُ - بعدما اطمأن للعبء الذّي أزالته الممرضةُ عنهُ -: ألم يأتِ أحدٌ من أفراد أسرَتِها للآن؟

    رددت إحدى الصديقات الواقفات بوقاحة - كأنها تلوم الطبيب على ما حدث -: والداها سيموتانِ من فورهما لو عرفا ما حَصل...

    قامت إحدى الصديقاتِ الأخرياتِ بتهدئتها و إسكاتها.

     قالَ الطبيبُ: سَتُزالُ الأجهزةُ عن جسمها غداً صباحاً و لا بدّ من تواجدِ أحدِ أفرادِ  أسرتها هنا، و هذا الأمر بيد الله... و أسفي أنني لم أستطع فعل شيء...

       لو لم تَقم باقي الصديقاتِ بسحبِ و جرِّ تمارا إلى بيتها، لباتت الليلةَ في ممر المستشفى؛ إلا أنّ قوانين وزارة الصحة لا تسمحُ بذلك...

      تنام! من قال أنها ستنامُ؟!، بقيت تلك الليلة ساهرةٌ في فراشها لا تتمنى أن يطلعَ صباحُ اليومِ التالي.

      راحةٌ عميقةٌ تغلغلت في أعماقها... راحةٌ عميقةٌ غَمرت وجدانها، عندما سَمعت صوتَ المؤذنِ ينادي لصلاةِ الفجرِ. أغمضَت عينيها و توقفَ قلبها...

      توقفَ قلبُ تمارا، و لكنّ قلبَ سارة عادَ ينبض من جديدٍ... من المجنون الذي كانَ يفكر في دفنها و هي حيةٌ؟!

     قيلَ لسارة في وقتٍ من الأوقاتِ: بماذا تشعرين؟، فقالت: أشعرُ بألمٍ أعظمُ من الألمِ الذي شعرت تمارا به...

     و قيلَ لها أيضاً: لا تستطيعين عمل سوى أحد الشيئينِ... أن تُحضري ورداً لقبرها كل يومٍ، أو تقومينَ بالدعاءِ لها...

 

    " – قد نتمنى أحياناً حصولَ أشياءٍ أو عدم وقوع حدثٍ معينٍ، و لكننا لا نعلمُ إن كانت هذه الأماني في مصلحتنا أو ضدها..."

     جلستُ أنصت إلى كلامِ المذيعةِ على التلفازِ باهتمامٍ. بعد ذلك بقليلٍ من الوقتِ وضعت أمي العشاءَ، و قامت باقي أخواتي – احم، و أنا طبعاً – بمساعدتها، أما أبي و إخوتي من الذكورِ فقط اكتفوا بالأكلِ، و عند انهاء عائلتنا الكريمة طعامها، قاموا و كأنَّ أمرَ ترتيب المائدةِ و تنظيفها لا يعنيهم مطلقاً!

     ماذا لو ساعدونا لننهي الأمرَ بسرعةٍ و نكونَ مثلَ العائلاتِ المثالية التي نشاهدها على التلفاز؛ الكلّ يساعدُ عندهم...

     بعدما أتممتُ مع أمي و أخواتي ما علينا من أمورِ تنظيفٍ عدتُ للتلفازِ و كانت المذيعةُ  لا تزالُ تتحدثُ بنفسِ الموضوعِ، أردتُ أن أبدّل القناةَ عنها و عن برنامجها و موضعهما ، الذّي لا أشك بأن أحداً لا يعيره اهتماماً على وجهِ الأرضِ!

     و عندما أمسكتُ بجهازِ التحكُّمِ بالتلفازِ تحدثت معي... أجل تحدثت معي! المذيعة تتحدثُ معي و تقولُ لي: تمني ما شئتِ و لك عليَّ أن أحققَ ما تتمنينهُ.

     كنت سأقرصُ نفسي، و لكنني لم أفعل؛ فطعمُ آخرِ لقمةٍ من الزيتِ و الزعترِ لا يزال عالقاً في فمي يؤكدُ لي أنّ هذا حقيقةً...

    أمسكتُ لساني قبلَ أن ينطقَ بما في بالي، و فكرتُ في نفسي و قلتُ: لو تمنيتُ أن يختفي الرجالُ، سأكونُ بذلك قد حكمتُ على البشرِ كلهم بالفناءِ... ستكبرُ النساءُ و يمتن و لا يكونُ هنالكَ أجيالاً جديدة ...

    قلت بعدَ تفكيرٍ: أتمنى اختفاءَ الرجال، و لكن بقاء الفتياتِ إلى أن ينتهي العالم...

-       و كيفَ ذلكَ؟... سألتني المذيعةُ

    سكتُ قليلاً و فكرت ثمَّ قلتُ: يمكننا مثلاً انتقاءُ مكانٍ تُشَقُّ الأرضُ فيهِ و تخرجُ البناتُ منهُ، و بهذه الطريقة لن ننتهي و ستتوالى أجيالنا من النساءِ فقط.

-       و لكنَّ هذا صعبٌ... قالت المذيعةُ.

-       و لكنّك أنت من طلبتِ مني التمني و عليكِ تنفيذُ ذلكَ... قلتها و أنا غيرُ مصدقةٍ أنها سَتُنفذُ هذا الأمرَ الصعبَ.

    سكَتَت قليلاً و ظَهَرَت علاماتُ اليأسِ على وجهها ثمِّ قالت: هذا صعبٌ و سوفَ يستنفذ كُلَّ قواي؛ فلا يمكنُ لأحدٍ تمني أمنيةٍ بعد هذهِ الأمنيةِ...

-       ليس لي بالناس، المهم أنا...

    تابعت: و هذا المكانُ سيكونُ منزلك؛ حيثُ سَتُشَقُّ الأرضُ في صباحِ كلِّ يومٍ و تَخرُجُ منها رضيعاتٌ بلا أمٍ و أب، و يَتَوجبُ عليكن رعايتهن.

     نَظَرَت إلى عينيّ من خلال شاشةِ التلفازِ و قالت: أيمكنني أن أسألك لماذا تمنيتِ مثلَ هذهِ الأمنيةِ، إذا أردتِ فقط أجبيني...

     قُلتُ و أنا غيرُ مصدقةٍ لما يَحدُثُ: سوفَ تعلمينَ ذلكَ قريباً...

-       لا، لن أعرف.

-       لماذا؟!

-       صحيح أنني فتاة، و لكنني بعدَ أحققَ هذهِ الأمنيةَ سَتَنفَذُ كلُّ قواي و سأفنى...

  لم أعرها اهتماماً؛ كوني صدقتُ أنَّ مذيعةً في التلفازِ تحدثني لا يعني أن أصدّقَ أنّها تحققُ الأمنيات... يا للسخافة!، سأنام، على الأقل النوم ليس سخيفاً، كم أشعرُ بالتعب!

      استيقظتُ على صوتِ بكاءِ صغارٍ يخالطهُ صوتُ صراخِ أمي و أخواتي، قمتُ من فراشي و وقفتُ بينَ كثيرٍ من الطفلاتِ الرضيعاتِ العارياتِ في صالةِ بيتنا و أمي و أخواتي اللواتي ذهلنَ تماماً بهذا المنظرِ.

       " هيا لنسكتهن " قلتها و أنا أحاولُ إيجادَ طريقٍ للمطبخِ بينَ هذه الأكوام من " الطفلات " ، و كنتُ أكادُ لا أجدُ موضعاً لقدمي!

     الأمنية حقيقية إذاً، فأنا لم أكلم شخصاً من خلالِ التلفازِ فقط؛ لقد تحققت لي رغبةٌ!.. ظننتُ ما حصلَ معي البارحةَ لم يكن سوى مجرّدِ ثرثرة غيرَ عادية، بين مشاهدةٍ و مقدمة برامجَ فحسب!

      وصلتُ للمطبخِ بسلامٍ و كنتُ أحضّرُ كمياتٍ من الحليبِ، و كنتُ فعلاً منهمكة في ذلكَ و أنا أشعرُ بشيء غريب... أنا لا أشعرُ بشيء، أشعرُ بعدمِ الشعور، أجل إنه كذلك، أنا لا أشعرُ بشيء... لا أدري، لعلي أحاول فقط عدم إشعار نفسي بشيء من تأنيبِ الضمير.

     طُرِقَ بابنا، أمي و أخواتي لا يزلن مذهولاتٌ، سأفتحُ أنا. " من على الباب " ... قلتها بصوتٍ عالٍ و أنا لا أزالُ في المطبخِ.

-       أم محمود.

-       قادمة، قادمة.

     " مصيبة يا جارتنا، مصيبة "... قالتها و هي لا تزالُ على الباب قبل أن أفتحه و الخوفُ يملؤ صوتها. تقدمتُ نحو البابِ، أعلمُ أنّ الأمرَ سيكونُ صعباً.

      فتحتُ البابَ، ارتمت أمامي، في بدايةِ الأمرِ شعرتُ أنني في مسرحية درامية، و بعدها أشفقتُ عليها. لقد قالت أنَّ زوجها و طفلها محمود قد اختفيا، و هي تحاولُ الاتصال على هاتفِ زوجها و لكنه لا يجيبُ.

    سألتها: هل ذهبتِ إلى أحدٍ قبلنا و بحتِ له بمشكلتك؟

-       لا، أنا جديدةٌ على هذه المدينة و لا أعرفُ سواكم.

-       إذاً لا بدَّ من أخذِ جولةٍ في المدينة لتعرفي ماذا قصدت بسؤالي.

     هدأتُ من " جنونها " و تعمّدت ألا أدخلها بيتنا، خشيةَ أن تفقدَ ما تبقى من عقلها و خرجتُ بها من البنايةِ بحالها، سألتني لمَ لا أضعُ حجاباً، أخبرتها أنني لن أحتاجه بعدَ الآن.

     أفهمتها كلَّ شيء و كانت قد سألتني قبلاً عن سبب البكاءِ الذي سمعتهُ في بيتنا؛ فأخبرتها، و شيئاً فشيئاً بدأت الفتياتُ يعلمن بأمر هذا الاختفاء، و قد ساعدت وسائلُ الاعلامِ على ذلك.

     كنّ راضيات عمّا حصل، قليلاتٌ منهنّ فقط من أبدين عدمَ الرضا، و أمي و أخواتي لم ينزعجن من الطفلاتِ الباكياتِ عندَ صباحِ كلِّ يومٍ...

    تمّ فيما بعد تحويلِ منزلنا إلى " موقع استمرارِ الحياة " ، و أُعطينا بيتاً جديداً في منطقةٍ مجاورةٍ.

     في كلِّ يومٍ يمرُّ تزدادُ أعدادُ غيرِ الراضياتِ عمّا فعلته، و حتى أمي ملَّت و وقفت في صفهنَّ.

    و في أحد الأيامِ قررن التخلص منّي و قتلي إن لم أصلح خطأي، وكيفَ لي أن أتراجعَ عمّا تمنيته و المذيعةُ قد اختفت!.. بكيتُ...

    " لماذا تبكين؟، إنّها تبكي فعلاً، هيا استيقظي "... إنّهُ صوتُ أخي الكبير، لقد كانَ حلماً... كم أحمدُ الله!

   نظرتُ إلى أخي و أنا في قمةٍ سعادتي و هو يقولُ: عليك تذوّقُ العصيرِ الطبيعي الذّي قمتُ بصنعهِ من البرتقال الطازج.

 

 

البحثُ عن وظيفةٍ

    اصطففنا... أعني جلسنا على مقاعدَ فاخرةٍ لإحدى الشركاتِ الراقيةِ منتظرين أدوارنا للمقابلةِ من أجلِ العملِ.

    هذه ليست أولُ مرةٍ أتقدمُ فيها لوظيفةٍ، و لست واثقاً من أنني سأحصلُ عليها؛ فأنا أرى من هم أحقُّ مني بها... لا، لا... بل أنا أرى الجميعَ هنا أحقُّ مني بها!

   على كلِّ حالٍ جاءَ دوري، قدَّمتُ ما باستطاعتي و مضيتُ في طريقي بعدها إلى بيتي... أعني بيتَ والدي؛ و لكن أن يكونَ لي بيتٌ أتفرّدُ به و يكونَ لي أسرةٌ هو حلمُ حياتي.  

     أنّبتني نفسي لأنني لم أقم بركوبِ سيارةِ أجرةٍ؛ ظنناً مني أنّ الجوَّ سيكونُ لطيفاً، و لكنني كنتُ مخطئاً؛ حيثُ كانت الأجواءُ حارةً جداً، و كانت تستمرُ بالارتفاعِ في درجات حرارتها مع مرورِ الوقتِ، و من شدة الحر لم يكن هناك أحد غيري في الشارع؛ فحتى سياراتُ الأجرةِ اختفت! واصلتُ المشي حتى وجدتُ نفسي بعدَ نصفِ ساعةٍ من السيرِ وحيداً في شارعٍ لإحدى المناطقِ الراقيةِ.

   (أوووف)... فقط لو أنني ركبتُ سيارة أجرة قبلَ خمس دقائقَ من الآن لكنت في البيتِ مرتاحاً تماماً مثل... مثل... مثل...

     أنا أبحثُ في عقلي عمّا أتشبه به و لا أجده، أهذا بفعلِ الحرِّ؟!

     استمررتُ في البحثِ، مثل... مثل... حتى جاءت عيني على رجلٍ مبتسمٍ في سيارةٍ فارهةٍ تفحصتُ سيارته جيداً، و قد ساعدني على ذلك خلو الشارع إلا مني و من هذه السيارة، و هي تدّل بوضوحٍ على ثرائهِ الواسعِ.

   يا ربي!، هذا الرجل في سيارتهِ من أحدثِ (الموديلاتِ) و مثله كثيرٌ، و أنا أمشي في الحرِّ لا أكادُ أصدقُ متى أصلُ البيتَ لأنزعَ حذائي الذّي يزيدُ من شعوري بالحرِّ!

    اقتربت السيارةُ أكثر، تجلسُ بجانبهِ امرأةٌ توحي طريقةُ تصرفها بأنها زوجته، هما مناسبان لبعضهما و يبدو أنَّ كليهما وجِدَ للآخرِ...

    ابتعدت السيارة عني قليلاً، بحيث صرت أرى السيارة من الخلفِ، فرأيتُ فتاتين صغيرتين ينظران من زجاجِ السيارةِ الخلفي - يا الله ! – فعلاً و كأنَ القمرَ تزوج أميرةً و أنجبا ملاكين!

     ابتعدت السيارةُ عني أكثر، و كنتُ أقولُ في نفسي مازحاً: هذا أنا أتزوج! هــه... سأبيعُ كليتي لأسدّ أولَ قسط من أقساطِ سيارةٍ كهذه... كم سيكونُ مهرُ الأميرة التي تجلسُ بجانبي؟! كم "ملاكاً" سأنجبُ منها؟! هــه... و كأنّ هذه السيارة و من فيها قد هبطوا من الجنةِ!

    توقفت السيارةُ، تأملتهم و هم ينزلون منها أمامَ أحدِ المنازلِ الفخمةِ التي تتكلمُ عن طبيعةِ حياةِ من يعيشونَ فيها دونَ أن تسأل!

    بداية نزلَ الملاكان الجميلان، ثمّ الأميرةُ و هي من كانت تتولى القيادةَ، خطرَ ببالي سؤالٌ تافهٌ: لماذا تقودُ الأميرةُ و القمرُ موجودٌ؟! و قلت في نفسي أنّ هذا هو الخطأ الوحيدُ فيهم و الذّي يثبتُ أنهم ليسوا من الجنة.

    توجهت الزوجةُ للجهةِ الأخرى من السيارةِ و فتحت البابَ لزوجها، يا الله! " الأميرةُ الخادمةُ"... لقد انقرضَ هذا النوعُ من النساءِ حتى قبل أن تولدَ جدتي!

   ابتلعتُ ريقي و أنا أرى الزوجةَ تساعدُ زوجها و قد قَدِمَ أحدُ الخدمِ للمساعدةِ أيضاً، يساعدان الزوجَ على مغادرةِ السيارة... أجل... فالدنيا كما تُعطي تأخذ، فقد أعطته كلَّ هذه المتاع و أخذت منه ساقيه، و ما أدراني ماذا أخذت منه أيضاً...

    رَنَّ هاتفي: مرحباً، السيد غسان حمدان معي؟

-       نعم، أنا هو

-       أهنئك؛ لقد وقعَ اختيارنا عليكَ، و عليك بالقدوم إلى شركتنا صباح غدٍ و استلام عملك.

 

 

رمثا المصائب...و المجنونُ!

 في أثناءِ تجوالي في شارع ليسَ ببعيدٍ عن منزلي متوجهاً لإحدى البقالات قاصدا شراء بعضٍ من الفاصولياء و العدس تذكرت أنني دفعتُ كلَّ ما تبقى لي من مالٍ (قسطا) لجامعة ابني نورس... سأعود لمنزلي إذا...

    بينما كنت أصعدُ درج العمارةِ المؤدي لشقتي شاهدت رجلاً يجلس على إحدى الدرجات، كنت أريد المرور من جانبه لمّا استوقفني قائلا لي: أنت تعاني من أزمة اقتصادية...

   فاستدركته بكل رجولة: ومن أعلمك؟؟؟

- إنها أزمةٌ اقتصاديةٌ عالميةٌ... أعني انه لمن الطبيعيّ أن أجدَ أشخاصا كثر مثلك في هذه الأرض...

- هات من الآخر...

- اليوم بعد العِشاء في الرمثا في منطقة تدعى (المصائب)، و على أرضها الواسعة هناك سنجمعُ ثروةً...

- كيف؟؟؟ ثم إنني لم اسمع بمنطقةٍ تدعى (بالمصائب) في حياتي...

    فأجابني باستهزاء: من مثلك لا يعرفُ شيئاً في الدنيا...لم أعطه بالاً و رحت أتابع صعودي الدرجات و شكله لا يفارقني...

     و في ظهرِ اليوم التالي خرجتُ و زوجتي لتلبيةِ دعوةِ غداءٍ لنا من قبل والدها، و هناك استغللتُ الفرصة و طلبتُ منه إقراضي بعض المال و ذلك حتى أستطيع تدبير بعضٍ من أمور عائلتي بعد ما أفلست بسبب (قسط) الجامعة اللعين... و شرحتُ له عن أنني فعلاً بحاجةٍ لهذا المالِ... فأجابني متعالياً: أنت لست رجلاً كاملاً...

- عفواً...

- أنت لا تستطيعُ تَدَبُّرَ أمور عائلتكَ...

   تشاجرت أنا و إياه في ذلك اليوم، و راحت زوجتي (حردانة) عندَ أبوها...

     خرجتُ من بيتهم لا أرى الضوءَ أمامي لشدة غضبي... و عند وصولي البنايةَ و صعودي عدة درجات فوجئت بذلك المجنون الذي رأيتهُ البارحة يقف أمامي - كالبقرة - التي تسد الطريق علي...

   قال لي: كيف حالك؟

أردت تفتيت أسنانه لشدةِ غضبي، إلا أنّه تابع كلامه: هل فكَّرتَ بالموضوع؟

لا أدري ماذا حصل لي عندما أجبته بنعم... و أنا فعلا أريد ذلك.

-       إذا اليوم بعد المَغرب.

-       ألم يكن الموعد البارحة بعد العِشاء!!؟

-       اليوم هو اليوم...

-       لنستقل حافلة الآن إذا...

-       نستقل!

-       عفوا، و لكن أليست المسافة بين العقبة و الرمثا طويلة؟!

-       أيها الأحمق...أنا لا اقصد - رمثا - الأردن...

لم افهم تلك العبارة فقال لي مرة أخرى: إن هذه المنطقة موجودة في مصر

-       مصر! أحقا في مصر رمثا و مصائب؟

-       و لكن الحمقى أمثالك لا يعرفون...

-       أفيها أموالٌ؟

-       كلا، فيها الكثير من الأموالِ...

-       و كيف سنذهبُ إليها؟

-       فقط أغمض عينيك...

    و فعلاً أغمضتُ عينيَّ و كنت خلال بضع ثواني في مكانٍ غيرَ البنايةِ التي فيها شقتي... إنّه مليء بالأموال الورقية و السبائك، بل و حتى الذهب و الفضة... هنالك أيضا الماس... يا للروعة... لو امتلكت كل هذا لأصبحت أغنى غني في العالم... و فجاءة رأيتُ أمامي رجلاً يابانياً... إلا أنّه لا يتحدث اليابانية، بل العربية و بغير إتقان، قال لي: هذه ثروة بينك و بينه.

-       بيني و بين من؟

-       صاحبك...

-       صحيح... أين صاحبي؟

-       في منزله و أما بالنسبة لثروته فستصله بعدما تقرر...

-       أقرر! أقرر ماذا؟

-       أن تموت زوجتك مقابل كل هذا الثراء الذي سيكون لك و لصاحبك.

-       لم اسمع خيارا كهذا طوال حياتي...

-       الآن سمعت و الآن سوفَ تجيبُ، زوجتك أم كل هذا الثراء؟

-       لا... طبعاً زوجتي.

-       فكِّر بوالد زوجتك الذي سوف يكن لك احتراماً بعدما تصبح ثريا...

-       يحترمني! وقد قتلتُ ابنته!

-       فكِّر...

-       الناس لا يقاسون بأموالهم يا رجل...

-       ماذا قلت؟

-       زوجتي طبعاً... و أريدُ العودةَ حالاً إلى بيتي و هناكَ سأفكرُ بحل سيجعل والد زوجتي يحترمني، ولن يكون طبعاً لمال.

-       لا لن تعود...

-       ماذا؟

-       ستعاقب لإهانتك المال و الثروة بالحبس هنا طوال حياتك...

-       ماذا؟

-       وسيعفى عن ذلك الرجل الذي جاء بك إلى هنا لأنه يحترم المالَ و الثروةَ...

 

ما دمتُ متأملةً

        ها أنا ، خرجت لتوي من صفي، لا صديقات لي ولا زميلات مثل ما أرغبُ.

       جلستُ بعد انتهاءِ الدوام المدرسي الرسمي في ساحةِ المدرسةِ، أتأملُ شهادتي وأقول في نفسي: كيفَ لي أن أذهبَ إلى البيتِ بهذه الاكمالاتِ؟!...كلها اكمالاتٌ... لا انتظري هنالك واحدةٌ أجل... أجل وهذه أخرى، ولكن ما الفرق ما دامت الاكمالاتُ  قد غلبت على النجاح لدي.

     كنتُ غالباً ما أمر من طريق (سوق البلد) لمنزلي؛ فقد كنت استمتعُ بمنظرِ الناسِ المتسوقينَ والبضائعَ أحياناً، و كانت أمي تنزعج من تأخري هذا؛ إذ أنني أتأخرُ قليلاً في العودةِ للبيتِ مقارنة بزميلاتي!

     في ذلك اليوم كنت أجري بسرعة؛ حتى لا تشكَ أمي في الأمر، ولكن ما هذه التغييراتُ؟!؛  فالأرضُ الجرداءُ هنا بمحاذاتي يبنونَ عليها مبنى جميلاً، يا الله لقد تأخرت كثيرا عن المنزل...     

       حين دخلت كانت أمي غاضبة لتأخري، ولكنّ غضبها لم يكن سوى ربع الغضب الذي سيكون بعدَ أن ترى شهادتي، أمي دائماً غاضبةٌ مني بسبب علاماتي المتدنية وتصرفاتي السيئة.

     لم  أجرؤ على سلوكِ ذلك الطريقِ لمدةِ أسبوعٍ؛ فبعد أسبوع عادت ثقتي بنفسي، فعدتُ أسلكُ نفسَ الشارعِ، و كانَ حينها البناء قد تغيرَ، ثمَّ أصبح البناءُ سوراً...  ثمَّ رأيت تلك (النافورة)... ثم المدرج...  و لكنني إذا صعدت الدرجَ رأيتُ الألعابَ ، لم تكن بناية جديدة كما تصوّرتُ، بل كان تغييرا عملته سلطةُ العقبة الاقتصادية الخاصة على المنتزه الجميل ليصبح أكثر جمالاً...

     صرتُ أذهبُ كلَّ يومٍ للدراسةِ فيهِ وقد بدأت علاماتي فعلاً بالتحسن؛ فقد كنت استمتعُ بمنظرِ الورودِ والأشجارِ والماءِ والأطفالِ،  وطبعاً تلكَ المكتبةُ التي كلما أردت كتابة بحث أتوجه إليها.

     لم تعد أمي تغضب مني بسبب علاماتي، أما بالنسبةِ لصديقاتي فقد خططنا للذهاب إلى المكتبةِ لقراءةِ كتبٍ تحمسنا على البقاءِ صديقاتٍ...

    هذه كانت البدايةُ فقط...

 

الذئب

     منذُ زمن لم تقم عائلتي بعمل رحلةٍ كهذه، و أنا لا أعني " بعائلتي " أمي و أبي و أخوتي فقط... لقد تناولنا طعامنا مع أقاربنا بين الأحراجِ و الأجواءُ في قمةِ روعتها.

    تكلمنا بعدها، و لم نتحدّث إلا عن الطعامِ اللذيذِ الذي تناولنه... أخذَنا الوقتُ في حديثنا عنه، حتى بدأت الشمس تختفي وراءَ الجبالِ... لقد انتهى النهارُ، و سيحلّ الليلُ.

    لنصل المدينةَ سنستغرقُ وقتاً كثيراً، و لسوء حظي أنني أكثرتُ من شربِ الماءِ البارحةَ و اليوم و لم أقضِ حاجتي و لا مرّة!

    عليّ قضاؤها الآن بينَ الأحراجِ، و إلا كانَ عليّ قضاؤها في السيارةِ رغماً عني بينَ إخوتي!!

    ذهبتُ بسرعةٍ و عدتُ بسرعة، و عند عودتي سألتني جدتي عن أخي الصغيرِ و ابن عمي الذي في مثلِ سنّه: لمَ لم تحضرهما معك؛ سنتحرك الآن في طريقنا للعودةِ؟

     رددت مستفسراً: و هل جاءا معي أصلاً؟

-         لقد تبعاك و قالا أنك ستأخذهما في جولةٍ...

      " جولة قضاء حاجتي "... قلتُ في نفسي ثم انفجرت: ألا يمكن لأحدٍ قضاء حاجته دونَ أن يتعرض لمتاعب؟!، و تابعت في نفسي " يا لها من عائلة! "

     " لنبحث عنهما قبلَ حلولِ الظلامِ "... قال عمي و هو غير مبدي اهتمامه لما يحصل حوله.

    " أجل، علينا إيجادهما قبلَ حلولِ الظلامِ الذي سيكونُ بعدَ دقائق، و نحن بغابة و لا أعتقد أنهما سيعودان إلى هنا وحدهما خلال هذه المدةِ "... قالها أبي ساخراً من عمي.

    افترق الجميعُ في مجموعاتٍ و ذهبوا للبحثِ عنهما، إلا أنا الذي بقي وحده ناقمين عليّ؛ فلم يدعني أحدٌ منهم لأكونَ في مجموعتهِ ، و كأنّ لي يداً في ذلك؛ لم أعلم أنهما تبعاني!

      لم يسطيعوا دخولَ الغابة بسياراتهم و لهذا تركوها؛ أخرجتُ من صندوقِ سيارةِ أبي سلة للطعامِ و أفرغتُ منها الطعامَ و ملأتها باستعانتي بصناديقِ سياراتِ الباقين ببعض الأشياء التي تعلمت من خلال مشاهدتي لبرامج (الكارتون) التي أتابعها عندما أجلسُ مع أخي الصغير أنها أغراضُ " المغامرين ".

    تعمقتُ في مشيي و صرتُ في وسطِ الغابةِ تقريباً، عزمتُ على إيجادهما و أنا أتذكرُ أنني لم أقضِ حاجتي اليومَ لضيقِ الوقت؛ لقد تأخرتُ في سهري ليلة البارحة مع رفاقي؛ فصحوتُ متأخراً، و لم أستطع استخدامَ الحمام حتى لأغسل وجهي!؛ فقد كانَ أبي في قمةِ غضبه عليّ، ينتظرني مع " الجموعِ الغاضبةِ "، و هم أقاربي الذين حضروا في سياراتهم لبيتنا؛ فنحن آخرُ من تجهّز من بينهم؛ و كنتُ أنا سبب تأخرِهم كلهم.

    يا للقرف؛ أنا أكره الغابات منذُ أن كنتُ طفلاً و الآن أنا في وسطها، و ما يزيدُ قرفي قرفاً أنني وحيد... وحيد... حتى أتى الظلامُ أخيراً مريداً أن يكونَ رفيقي، و لكنه لم ينجح و زاد من إحساسي بالوحدة، و أشعرني بالخوفِ أيضاً.

    مجيء الليلِ أشعرني بالخوفِ فقط؛ و لكنّ ما أشعرني بالرّعبِ هو رؤيتي لأولِ مرةٍ في حياتي كلباً كبيراً لهذا الحدّ.

    اقترب مني، ابتعدتُ عنه. بقي يقتربُ و أنا ابتعدُ ثم شرعتُ أركضُ هرباً منه؛ قفزَ و بلمحِ البصرِ أصبحَ أمامي فبيقتُ واقفاً مكاني لشدّةِ خوفي و هو يدورُ حولي محتفلاً بوجبته التي هي أنا!

    ابتعدَ عنّي بعدَ أن دارَ حولي عدّةَ دوراتٍ، سقطتُ على الأرضِ لشدّةِ توتري.

  حاولتُ العودةَ إلى حيث اصطُفت السيارات، فصرتُ أنا أيضاً ضائع!

     سمعتُ صوتَ صراخِ أخي و ابن عمي مستنجدين، فأيقنتُ انّه لم يتركني رأفةً بي، و لكنّه ذهبَ إلى وجبة طرية أخرى.

    توجهتُ إلى حيث مصدر صراخهما و لم يكن المكانُ بعيداً عن مكانِ تواجدي، رأيتهُ و هو يدورُ حولهما، احسستُ أنّ عليّ فعلَ شيء، سأحميهم...

    سأحمي أحدهم على الأقل! و سيكونُ أخي؛ سأحملهُ و أجري بهِ بسرعةٍ ريثما يلتهمُ ذلكَ المفترسُ ابن عمي.

     وفقتُ بالقربِ منهم و قد رسمتُ في ذهني خطة هي بالنسبةِ لي محكمة للنجاةِ بأخي، دخلتُ الحلقةَ الوهميةَ التي يصنعها ذلكَ الكلبُ الضخمُ بدورانه حولهما و بحركةٍ خاطفةٍ تناولتُ يده و ركضت بهِ، لأفاجئ بعدها بأنني أمسكتُ يدَ ابن عمي!

   رأيتُ بعدها الكلبَ و هو ينهشُ أخي الذي يستنجدُ بي و يناديني باسمي، بكيتُ، يا إلهي ماذا أفعل؟

      تذكرتُ أنني أحملُ الحربة العسكرية التي وجدتها في سيارةِ جدي بين أغراضه، و تذكرتُ أنّه علمّني كيفية استعمالها و شرحَ لي سبب وجودِ ثقبٍ في مقدمةِ نصلها.

      خبأتُ ابن عمي خلفَ ظهري ، و تقدمتُ إلى حيثُ يوجد أخي و الكلبُ، وضعتُ الحربة بين أسناني و خلعتُ معطفي و لففتهُ حولَ ذراعي اليسرى بسرعة، فوجئ الكلبُ بعودتي إليه فهجمَ عليّ فاتحاً فمه على اتساعهِ، اتقيتهُ بذراعي اليسرى ظناً منّي أنّ قماشَ المعطف سيحميني من انيابهِ الحادّة، لكنّي شعرتُ بها تنغرسُ في ساعدي، ألمي، و رعبي، و يأسي، دفعوني لأطعنهُ عدّةَ طعناتٍ سريعةٍ في بطنهِ بينما كانَ هو يغرسُ مخالبهُ في كتفي و وجهي...

    في النهايةِ ابتعدَ الكلبُ عنا، و دمهُ النازفُ قد لوثني. نمنا ثلاثتنا متلاصقين للتخفيفِ من البردِ الذي نشعرُ بهِ.

      استيقظتُ في اليومِ التالي على صوتِ صراخِ ابنة عمتي المزعج: لقد وجدتهم، لقد وجدتهم...

     سألتني و هي تمسحُ الدمَ الذي على ذراعي: كيف كانت معاناتكم ليلةَ البارحة، كيفَ جُرِحت؟، الدمُ كثير...

     نظرتُ إلى أخي وابن عمي و هما لا يزالان نائمين و رددتُ: هذا ليسَ كلّهُ دمي. أخبرتني أنهم يبحثون عنّا منذُ البارحةِ و قد اتصلوا بالشرطةِ لمعاونتهم على ذلك.

     اتصلوا بالإسعافِ لنقلي أنا و أخي لأقربِ مستشفى؛ فقد كانت جروحنا عميقةً.

   وجدوا فيما بعد الحيوانَ الذي تعرّضَ لنا ميتاً في مكانٍ ليسَ بعيدٍ عنّا و كانَ ذئباً، كما أنّ ابن عمي لم ينطق من بعدِ تلكَ الحادثةِ، و قد علمَ النّاس عمّا فعلتهُ بالذئبِ. تعجبَ الجميعُ مما فعلته بذئبٍ شرسٍ وحدي!.

الجريدة

        تصفَّحَ الجرائدَ كما يفعلُ كُلَّ يومٍ عند بداية كل صباح، قَرَأَ العناوين الرئيسية لشتى المواضيع؛ السياسية، الرياضية... و حتى بعضها التي تخصّ الممثلين و المغنيين!

     وضعها بعدما أنهى القراءةَ بالقربِ من فنجانِ القهوةِ الذي كانَ يحتسيهِ على طاولةٍ بجانبِ الأريكةِ التي يجلسُ عليها في غرفةِ استقبالِ الضيوفِ من بيتهِ.

    الوقتُ حانَ ليذهبَ لعملهِ، حاولَ القيامَ عن الأريكةِ و لكنه لم يفلح؛ لقد التصقَ بها.

     حاولَ النهوضَ عدّةَ مراتٍ أخر، و لكنه لم يستطع. بعدَ ذلكَ بقليلٍ أخبرتهُ الأريكةُ أنّهُ ليستطيعَ القيامَ عنها عليهِ أن يعيدَ قراءةَ الجريدةِ بتأنٍ.

    قالَ لها أنّهُ إذا سمحت لهُ بالوقوفِ أولاً سيقرأ الجريدةَ كاملةً، عندما سمحت لهُ بالنهوضِ عنها قامَ بسرعةٍ و ركضَ نحو البابِ و أخلفَ وعده، سألتهُ الأريكةُ بصوتٍ عالٍ و هو يركضُ: "لماذا ؟ "؛ فأخبرها أنّه تأخرّ عن عملهِ.

    عندما وَصَلَ بابَ بيتهِ الخارجيِّ و حاولَ فتحه لم يفلح؛ أخبرهُ البابُ أنّ عليهِ قراءةَ الجريدة ليفتحَ له. قالَ للبابِ أنّ عليهِ أن يفتحَ له في البدايةِ، و أنّهُ إذا فتحَ له سيقرأ الجريدةَ.

-         و ما أدراني أنّك لن تخذلني كما خذلتَ الأريكةَ قبلَ قليلٍ؟

فكّرَ قليلاً ثمّ قال: سأحضرُ الجريدة...  ما رأيك؟

    أحضرَ الجريدةَ و عادَ للبابِ و قالَ لهُ: إنها معي الآن، و أنا أعدكَ أنني سأقرأها، و لكن أمامَ جهتكَ الأخرى؛ سأقرأها عليكَ و أنا في الشارعِ، ما رأيكَ؟

    بدت فكرةً رائعةً للبابِ و وافقَ و فتحَ لهُ...

     لكنّه لم يتوقف في الشارع أمامَ بابِ بيتهِ كما وعده و أكملَ طريقهُ ماشياً باتجاهِ سيارتهِ.

     وَضَعَ الجريدةَ بالقربِ منه على المقعدِ الذّي بجانبهِ، شغلها و توجه لعمله و هو يحدِّق بساعةِ يدهِ، إنّهُ يقودُ و ينظرُ لساعتهِ بنفسِ الوقت!

     وصلَ الشركةَ التي يعملُ فيها متأخراً، و لكنه بنفسِ الوقتِ لم يرَ أيَّ سيارةٍ من سياراتِ زملائهِ.

     أمسكَ بمقبضِ بابِ السيارةِ  و شدَّهُ و لكنّ بابَ السيارةِ لم يفتح، حاولَ أكثرَ من مرّةٍ. و كانت النتيجةُ لكلِّ محاولاتهِ الفشل.

    سألَ السيارةَ: "لماذا؟ "؛ فأخبرتهُ أنّ عليهِ قراءةَ الجريدةِ كاملةً، حتى العناوين الفرعية. و بعدَ نقاشٍ طويلٍ أقنعَ السيارةَ أنّهُ سيقرأها، و لكن بعد أن تفتحَ له...

    وافقت، و لم يكن بيدها حيلة. حملَ الجريدةَ بيدهِ و فتحت السيارةُ له، استدارَ و أخلفَ في كلامهِ كما فعلَ مع غيرها سابقاً، استدارَ و هو يتساءلُ عن سببِ عدمِ وجودِ سيارةٍ من سياراتِ زملائهِ.

     دخلَ الشركةَ و لم يجد أحداً فيها سوى عامل النظافةِ، سألهُ: لماذا الشركةُ خاليةٌ إلا منك؟

    نَظَرَ إليهِ العاملُ مستغرباً و قالَ: كنت أراكَ تذهبُ كُلَّ يومٍ للشركةِ؛ فكيفَ لا تعلم؟!. حدَّقَ عاملُ النظافةِ في الصحيفةِ التي يحملها الرجل و تابع: كما أنَّك تحملُ إحدى الصُحُفِ التي تحملُ الخبر!

     قلّبَ صفحاتها بسرعةٍ و هو في حالةِ ارتباك و أخذَ هذا منه وقتاً.... لم يقل شيئاً للعاملِ قبلَ أن يخرج، و تحديداً بعدما أنهى قراءة الخبرِ؛ " أفلست شركةُ فلان الغساني و أولاده... "

 

الأستاذ ( سعيد )

       تقاعدَ الأستاذ ( سعيد ) بعدَ وفاةِ زوجتهِ بوقتٍ قصيرٍ، عَمِلَ طوالَ سنين حياته في التدريسِ؛ حيثُ دَرَّسَ بدايةً المراحل الأساسية ثُمَّ انتقلَ لتدريسِ المراحلِ الثانويةِ في محافظةٍ قريبةٍ هو و زوجته و أولاده.

      مع أنَّه طالما أحبَّ مهنةَ التدريسِ و أحبَّ تلاميذه حاله كحالِ أي معلم في وزارة التربية و التعليم؛ التقاعدُ بعدَ اتمام المدَّةِ الزمنيةِ المعينةِ للمهنةِ.

    قبلَ وفاةِ زوجتهِ بعدة سنواتٍ بدأت تنتابه في بعضِ الأوقاتِ وعكاتٌ صحيةٌ أخبره الطبيبُ أنَّ سببها التقدمَ في العمر.

    و لكنَّه في الآونةِ الأخيرةِ بدأَ يتعبُ بشدة، لا أحدَ معه في المنزلِ يساعده في قيامهِ بالواجباتِ الأساسيةِ تجاهَ نفسه ...... فكانَ كثيراً ما يحتارُ في ما سيحضِّره طعاماً كوجبةٍ يومية!!

      تذكَّرَ أولاده و بناته قبلَ أن يتركوهُ هو و زوجته و ينتقلونَ للعيشِ في المكانِ نفسهِ الذي عاشوا فيه صغاراً قبلَ انتقالهم مع أبيهم لهذه المحافظة، و بعدَ وفاة أمهم ألحوا عليه أن يأتي و يعيشَ معهم لكنَّهُ رفضَ الفكرةَ تماماً.

     الوحدة ، و المرض، و فقدان الزوجة كلها اجتمعت في حياته دفعةً واحدةً ، لم يفكِّر يوماً بأنَّهُ سيواجهها جميعاً معاً .......... لم يفكِّر أصلاً في أنَّها ستحدثُ معه!

       أيعقلُ أن يكونَ قد نساه طلابه؟ .. و هو الذي لم ينسَ أحداً منهم! ، لقد كانَ يزورُ معلميهِ في بيوتهم؛ و لم ينسَ أياً منهم للآن ......... كم بكى لمّا توفوا واحداً تلو الآخر و شعرَ بقلبهِ يتقلصُ في كُلِّ مرة تُوفيَ فيها أحدهم. هل سيبكي عليهِ أحدٌ؟، زملاؤه المعلمون بعدما تقاعدوا عادَ كُلُّ واحدٍ فيهم مع عائلته للعيشِ بين أهله في المحافظات المجاورة إلى حيثُ ينتمي كُلٌّ منهم.

     عندما كانَ يُدَرِّسُ كانَ معروفاً بأسلوبهِ المبتكر في إيصال المعلومات للطلاب، و أسلوبهِ اللطيفِ في معاملته لطلابهِ و زملاءه المعلمين.

    كُلُّ المشرفين أثنوا عليه طوالَ السنين التي دَرَّسَ خلالها، و كانَ مميزاً في نَظَرِ مديره من بين باقي المعلمين. و رغمَ تفوقهِ على زملاءه لم يكرهه أحدٌ منهم أو شعرَ بالغيرةِ منه؛ أحبوه و تمنوا له كُلَّ الخير ........

    إنَّه المثلُ الأعلى في نظرِ أولاده، و كم من مرةٍ سألَ فيها تلاميذه ماذا يريدونَ أن يصبحوا في المستقبل و كانت الإجابة - " مثلك يا أستاذ " !

    كم هو مريضٌ الآن!، لو مات في بيته لن يعرفَ شخصٌ بأمره و سيتعفنُ و يتحللُ ربما قبل أن يدري أحدٌ بأمره ... لا؛ قد يتصل أحدُ أبناءه به، و لا يجيبُ على الهاتفِ فيقلقون عليه.

     خرجَ من منزلهِ و هو يمشي يكادُ يهوي على وجهه، قالَ في نفسه أنَّ تلكَ اللحظة هي اللحظة التي سيلتقي بها مع زوجته.

    تهاوى َ أمامَ أقربِ مستشفى وصلهُ ماشياً على قدميه. عندها نادى عليهِ طبيبٌ بعيدٌ في المسافةِ عنه....

   " أستاذي ، ماذا حصلَ لك؟ " ..... كانَ كلامه معه قصيراً جداً، لكنَّه تابع لباقي الأطباء الموجودينَ حوله :- تعالوا و ساعدوني بسرعة؛ إنَّهُ أستاذي ... في الوقتِ الذي كانَ يحاولُ فيه رفعَ الأستاذِ عن الأرض.

    بكى ( سعيد ) ... الأستاذ ( سعيد ) ..............

 

النهاية المناسبة تماماً

  يوجد كثيرٌ من الأشياءِ في حياتي أحمدُ الله عليها؛ و التي لم أكن بنتاً لما كانت في حياتي... 

      و لكنني أتمنى لو كنتُ شاباً كلما تذكرتُ أنَّه إذا أحببتُ فتى أو أعجبتُ به لا أستطيع البوح له .... لأنني فتاة!

       اليوم سيكون زواجي، سأتزوجُ بمن لم أفكر فيه ِيوماً... و لكنني أحببته!

       قبل بضع سنوات؛ و عندما كنتُ على أبوابِ امتحاناتِ آخر الفصل الدراسي الأول، وقفتُ على بوابةِ مدرستي الكبيرة، وقفتُ منتظرةً الحافلةَ التي ستوصلني لبيتي....

     لم أكن أشعرُ بأي خوف أو توتر كما يشعرُ أغلبُ الطلابِ عند اقترابهم من موعدِ الامتحانات!

    الجو الحار و تأخر الحافلةِ عني أشعراني فقط بالتوتر، تمشيتُ ببطء في خطٍ مستقيمٍ أمامَ بوابةِ مدرستي، لم يكن هنالكَ أي أشخاص، كنتُ على علمٍ بأنَّ الحافلةَ لن تأتي و أنني قد تأخرتُ عنها و فاتتني.

     و كنتُ على علمٍ أيضاً أنني سوفَ أزيدُ من شعوري بالحر عندَ قيامي بالتمشي.

      لم يتواجد " أشخاص " غيري في الشارعِ، و لكنني رأيتُ سيارة ابن جارنا مصطفة قبالة المدرسة؛ إنَّها السيارةُ الأحدثُ بينَ سياراتِ سكان الحي.

 

      مع علمي أنَّ الحافلةَ لن تأتي، أصررتُ على الوقوفِ في الشارعِ، متأكدةً من أنَّ أبي سيأتي لأخذي إن تأخرتُ عن المنزلِ، و لا بُدَّ من تواجدي عندها بالقربِ من المدرسة.

     بعدَ وقتٍ قصيرٍ خرجَ ابنُ جارنا من المدرسةِ... نظرَ إليَّ و في عينيهِ سؤالٌ لم يسألني إياه إلا عندما اقتربَ مني :- ماذا تفعلين للآن في المدرسة؟

    ضحكتُ و أنا أقولُ له أنني تأخرتُ عن الحافلةِ بينما كنتُ أحادثُ صديقاتي، و أنني أنتظرُ ريثما يأتي أبي ليوصلني للبيت.

-         ما رأيك أن تأتي لأوصلك أنا في سيارتي؟ ........ قالها بعباراتٍ سريعةٍ كأنَّه ألزِمَ لفعلِ ذلك.

     كادَ خجلي أن يسبقني " لا شكراً سأنتظرُ أبي " ، الحر الفظيعُ أجبرني على اقتطاع " شكراً " فقط ............ في الأثناء التي قَدِمت فيها أخته و قد كانت لا تزالُ في المدرسة.

      بعدَ أن سألتني عن سببِ تأخري، و لكن بطريقةٍ مختلفةٍ قليلاً عن طريقةِ أخيها أخذت تضحك بشكل مستمر أشعرني بالخجل؛ هذا و أنا الخجولةُ بطبعي.

    لم تكن تعلمُ أنَّ هنالك أحداً غيرهما في المدرسة، و أعتقدُ أنَّ سببَ ضحكها لم يكن إلا لإخفاءِ خجلها مني، و لكنها بدلاً من ذلك أخجلتني أنا!

    أوصلاني لمنزلي، و كانت جولةً رائعةً أقومُ بها مع أولادِ جارنا بعدَ الدوامِ المدرسي في شوارعِ المدينة؛ الجولة التي لم تستغرق إلا أقل من عشر دقائق!

    في البيتِ وجدتُ والديَّ نائمين و لا يعلمان ما إن كنتُ تأخرتُ في العودة أو أنني في المنزلِ أصلاً!!

    لا أعلمُ ماذا حصلَ لي بعدَ ذلك؛ منذ ذلكَ اليومِ و أنا لا أفكر إلا بتلكَ اللحظاتِ التي قضيتها مع ابن جارنا، كم تمنيتُ أن أنساهُ من تفكيري ... و لكن مع مرورِ الأيامِ ازدادَ تفكيري به، و لاسيما عندما تكررَ مجيئه للمدرسةِ بحجة ايصالِ أخته... مع أنَّ أخته لا تحتاجُ للعودة معه؛ فهي تعودُ لمنزلها معي بنفسِ الحافلة التي أعودُ بها.

     أصبحتُ أنا الطالبةُ المجتهدةُ لا أكترثُ لدروسي، و قد تنبهت أغلبُ معلماتي لهذا و أخبرنني أنني تغيرتُ للأسوأ في الوقتِ الحساس؛ فالامتحاناتُ على الأبواب...

    لو أحبت الفتاةُ فتى و هو لم يكن مهتماً لها، ماذا عليها أن تفعل؟.... للحب قواعدٌ و قوانينُ لا يجبُ تجاوزها في كُلِّ مكان و في أيّ زمان؛ على الشاب دائماً مصارحةُ الفتاة في البداية.

    و إن فعلت هي ذلك ستكونُ العواقبُ كثيرةٌ؛ ففي حالةِ إن كانَ هو يحبها و سبقته هي بالمصارحة بحبها له، سينساها... سينساها فقط؟! ستكونُ في نظرهِ " الأنثى غير الكاملة "...

       وضعني قدري في تجربةٍ النهايةُ فيها معروفةٌ. لو أنني فقط أشرحُ لقدري كم أنا بحاجةٍ لتحديدِ هذهِ النهايةِ فقط، هذه النهاية بالذات!

     في إحدى المرات التي كنتُ فيها في طريقِ عودتي من المدرسة في الحافلة جلست بجانبي ابنة جارنا، تحدثنا وقتها عن مواضيعَ شتى و أخبرتني - عن براءةٍ -أنَّ أخوها ينتظرُ كُلَّ يومٍ تقريباً حبيبته، و هي طالبةٌ في مدرستنا دون علمِ أمه و أبيه و أنَّه يحتجُّ أمامها كلما حاولا التحقيقَ معه في الموضوعِ بأنَّه يوصلُ أخته و التي بدورها لا تحتاجُ لمن يوصلها بوجودِ الحافلة، لكنَّها تسترُ أخاها أمامَ والديهما على اتفاقٍ بينهما ....... هذا ما انتظرتُ سماعه، و الذي احتجتُ له ليكونَ دافعاً قوياً لي لأعودَ لحياتي السابقةِ الطبيعيةِ.

    عوَّضتُ ما فاتني من دروسٍ، هذا وقد اكتسبتُ درساً جديداً سأعلمه لبناتي و حفيداتي في المستقبلِ!

    مرَّت الأيامُ بشكلٍ طبيعي لا أقل و لا أكثر من عادية؛ التحقتُ بإحدى الجامعاتِ الرائدةِ التي لا تقبلُ إلا المتفوقينَ فيما بعد، كما تقدم لي ابن عمي الذي درسَ معي نفس التخصص في الجامعةِ نفسها.

    و اليومُ هو تخرجنا، و هو نفسُ اليومِ الذي قررنا أن نتزوجَ فيه ... مع أنني في البدايةِ لم أكن أشعرُ برغبةٍ حتى في النظرِ في وجهه، و لم أكن أعامله إلا كأخ!

    أحبني و لكنني لم أحبه و لم أشعر برغبةٍ تجاهه طوالَ فترةِ الخطوبةِ. فقط اليوم استسلمتُ للأمرِ و سلمتُ نفسي لحبه.

    اكتشفتُ أنَّ الأمرَ جميلٌ ... كم كنتُ غبيةً عندما بحثتُ عن شخصٍ أحتاجه و لا يحتاجني و هنالكَ من يحتاجُ إليَّ من الأساس!

     لن يعني حبُّ الفتاةِ للفتى شيئاً إن لم يكن يحبها هو فعلاً؛ و لكن إن هو أحبها فهذا يكفي لأنَّه في النهايةِ سيظلُّ مكملها الذي أوجده الخالقُ و الذي لا غنى لها عنه و تحبه ...

    اعذرني يا قدري؛ لأنني طلبتُ منكَ أن تسمحَ لي باختيارِ نهايةِ هذه التجربةِ؛ فالنهايةُ التي اخترتَها لي مناسبةٌ تماماً.

 

آسفةٌ يا ولدي

     الخبرُ كالصدمة يؤكده التقريرُ الطبيّ بينَ يديَّ، هرعتُ إلى صديقتي المقربةِ في بيتها و كانت مشغولةً جداً بترتيبِ كتبها التي تخصُّ الدراسة.

-         ماذا أفعلُ بهذه المصيبة ... إنَّها حقاً مصيبة؟!

    قالت بهدوءٍ مصطنع :- تتصرفين و كأنَّه ابن ... نظرت فيَّ مطولاً قبلَ أن تتابع:- إنَّه ابنك من زوجك لماذا تقولينَ عنه " مصيبة "؟

    أن أتابعَ دراستي الجامعية؛ هذا طموحُ حياتي و صديقتي تعرفُ هذا الأمرَ جيداً. اقترحت عليَّ أن أفكرَ بموضوع زيارةِ طبيبٍ مختص في أقربِ وقتٍ متاح؛ للتخلصِ من الطفل، على ألا يعلمَ زوجي بالأمرِ.

      قَدِمنا على الطبيبِ وحددنا موعداً للقيامِ بعملية الاجهاض. أوصلتُ صديقتي لبيتها أولاً ثُمَّ تحركتُ بسيارتي لمنزلي ... صعدتُ الدرجات الكثيرة التي تفصلُ بيني و بينَ شقتي، صعدتها ببطء و كنت مستمتعةً بذلك جداً، لم ينتابني شعورٌ بتأنيبِ الضمير لما سأقومُ بعمله. الكُلُّ يتكلمُ عن عواطفِ الأمِ و تواصلها مع أطفالها؛ عليهم تصحيحُ معلوماتهم فأنا لا أشعرُ تجاهه بأيّ شيء. أجبرت على الزواجِ في سنٍ مبكر، لكنني لن أسمحَ لذلكَ بأن يكونَ عائقاً بيني و بينَ دراستي التي كم تخطيتُ مراحلَ صعبة كثيرة في سبيلِ الوصولِ إليها!

      قبلَ أن أصلَ لشقتي بعدة درجات أحسستُ بنفسي أكادُ أقع و شعرتُ بأنني فعلاً مرهقة. توجهتُ لسريري فوراً ونمتُ، أصبحت الدنيا بتدرجاتِ اللونِ الأسودِ في نظري، و هل للونِ الأسودِ تدرجاتٌ؟!

-         أمي ....... اقتربَ مني طفلٌ صغيرٌ و قالها بالكادِ فهمتها منه؛ حيثُ بعثرَ أحرفها.

   اقتربَ مني و لمسَ رقبتي بأصابعهِ الصغيرةِ، و بقيَ ينظرُ للأرضِ حتى قمتُ أنا برفعِ رأسه عن طريقِ شدِّ ذقنه بإصبعيَّ لأعلى و عندها صرخت ...

-         ماذا بكِ؟ هل هو حلم؟، هذا صوت زوجي، فتحتُ عينيَّ و قلتُ له :- لا أدري كما أنني لم أكن نائمةً تماماً.

    أخذَ يضحكُ بقيتُ مستغربةً من ضحكته حتى قالَ لي أنني استغرقتُ في نومٍ عميقٍ قبلَ أكثرِ من ساعةٍ، ولم أكن قد غطيتُ نفسي حتى جاءني هو بغطاء وضعه عليَّ، تحسستُ الغطاءَ و كانَ يغطي جسمي كاملاً و صولاً لرقبتي؛ ملامسةُ أصابعِ ذلك الطفل لرقبتي لم تكن سوى ملامسةِ الغطاء.

      في نفسِ اليومِ، و بينما كنتُ جالسة وحدي سرحتُ بذهني، و لم أشعر بأنني أتحدثُ مع نفسي :-

-         أنا أحبك يا أمي، هل تعلمين كم أنا أحبك؟

-         كيف لك ألا تحبني و أنا أساسك و سرُّ وجودك؟، كما عليك أن تكرهني؛ تذكر أنني سأقتلك بعد أسبوعٍ واحدٍ منذُ الآن، هل نسيت؟!؛ كيفَ لكَ أن تنسى؟! ألم تسمع كُلَّ كلمةٍ تحدثنا فيها أنا و الأطباء؟......

-         بالتأكيد سمعتُ يا أمي كُلَّ كلامكِ مع أطبائك و مع صديقتك، و لكنني أقدِّرُ أنَّكِ كنتِ مجبورةً على فعلِ ذلك؛ أنتِ تظنينَ أنَّ صديقتكِ هي أعلمُ الناسِ بمقدارِ حبك لإتمامِ دراستكِ الجامعية؛ و لكن لا تنسي أنني أسمعُ تفكيرك في الوقتِ الذي لا يمكنُ لأحدٍ غيري فعلُ ذلك، و كذلكَ أنتِ؛ تسمعينَ كُلَّ حرفٍ أفكرُ فيه فتعلمينَ مقدارَ حبي لك ... سأبقى على حبي لك مهما فعلتِ بي ...

    صوته يأتي من الأعماقِ بنبرةِ ثقةٍ حزينة؛ طفلي واثقٌ من نفسهِ بشكلٍ محزنٍ ... بشكلٍ جعلني أبتسمُ بشكلٍ غريب! .......... ابتسمت شفتاي بينما بكت عيناي، و لم يكن في ابتسامتي عنصرُ حيويةٍ!

-         هل أنتَ الطفلُ الذي رأيته في الحلم؟

-         نعم؛ لكن بشكلٍ مختلفٍ، أنتِ من شوهتني بذلك الحلم، أؤكدُ لكِ أنني جميل...  فقط أغمضي عينيكِ و تخيليني من جديد.

   و بالفعلِ أغمضتُ عينيَّ و تخيلتُ شكله و كانَ طفلاً رائعاً، و أخبرني أنني يمكنني متابعةُ دراستي في وقتٍ لاحقٍ عندما يكبر، و أنَّه سيكونُ طفلاً مطيعاً لا يضايقُ والدته عندما تدرس.

    لن يؤلمكِ الأمرُ كثيراً، كما أنَّكِ أنتِ من سيحددُ الوقتَ اللازمَ لإتمامِ ذلك ... صوتُ أحدهم، ثُمَّ أردفَ آخرٌ :- " هل أنتِ مستعدة؟ ".

    ستةُ أيامٍ مضت ..... كم شعرتُ ببرودةِ جسدي في تلكَ اللحظة، كما هي مشاعري أيضاً! .. جاءَ صوت :- كنتُ سعيداً في الفترةِ التي عشناها معاً يا أمي ...

   " لا لستُ مستعدة، توقفوا رجاءً " ... هذه جملتي؛ أيقنتُ أنني تعلقتُ بشيءٍ و تعلقَ بي، سامحني يا ولدي على ما كنتُ سأقترفه، أعدكَ أنني سأكفِّرُ عمَّا كدتُ سأفعله بك ... منذُ اليوم يا عزيزي الصغير.

   ابتسمتُ ابتسامةً ملأتها الحيوية و أنا أخرجُ من بوابةِ المستشفى الكبيرة ...

 

ربيعٌ بلا انتهاء

    عندما يتناثرُ ضوءُ القمرِ أبيضَ، بلمعانٍ فضيٍّ صافٍ على وجهِ طفلةٍ جالسةٍ بسريرها قربَ نافذةِ غرفتها المطلةِ على شاطئ البحر، يظهرُ جمالُ طفولتها البريئةِ ...

  اكتمالُ القمرِ في تلكَ الليلةِ شدَّها لتسأله أن يحكي لها قصةً ......

- و من أخبركِ أنني أحكي القصصَ؟!  ... سألها مبتسماً مستغرباً من سؤالها الطفوليِّ.

-  أمي أخبرتني أنَّكَ عندما تكتملُ و تصبحُ بدراً يصبحُ بإمكانِ الأطفالِ سماعك و أنتَ تحدثهم بقصصِكَ  ... قالت الطفلةُ.

ضَحِكَ، ثُمَّ أخبرها بأنَّهُ سيحدثها بقصةٍ أحداثها مازالت تجري للآن.

- أحقاً أحداثها تجري الآن؟  ... سألت الطفلةُ القمرَ.

- نعم، و لكنَّ الأشخاصَ الذينَ تجري معهم هذه الأحداثُ بعيدون جداً عنَّا؛ إنَّهم يعيشونَ في " مجموعةٍ نجميةٍ " أخرى.

حدَّقت الطفلةُ في القمرِ مُطّوَّلاً قبلَ أن تسأل :- أتقصدُ " مجموعة شمسية " أخرى؟

- لا؛ فالنجمُ الذي تدورُ حولهُ الأرضُ و الكواكبُ التي حولها أسماه البشرُ (شمس)؛ و لكنَّ سكانَ الكوكبِ الذي سأحدِّثُكِ عنه أسموا نجمهم (رحب )، و الذي سميت مجموعتهم فيما بعدُ باسمه، و كما هو اسم كوكبكِ الأرض، فقد أسموا كوكبهم (مَيْل).

     على هذا الكوكبِ الجميلِ عاشَ أشخاصٌ عاديون؛ عاديونَ جداً ..... في أكلهم، و في نومهم، و في طريقةِ تربيتهم لأولادهم.

    حدَّقت الطفلةُ في القمرِ و سألتهُ :- هل هم مختلفون عنَّا بأشكالهم ؟

 ضَحِكَ القمرُ ضحكةً قصيرةً قبلَ أن يجيبها :- بالنسبةِ لهم ربما أنتم المختلفون بأشكالكم عنهم! و لكنَّكم بشكلٍ عامٍ تتشابهونَ معهم بعضَ الشيء.

   توقفَ عن الكلامِ قليلاً،  ثمَّ تابع :- موقعُ كوكبهم له دورٌ في أن يكونَ لديهم خمسةُ فصولٍ في السنة؛ الصيفُ، و الخريفُ، و الشتاءُ، و الربيعُ. و أمَّا الفصلُ الخامسُ غير المتواجدِ على كوكبكم و هو الأطولُ مُدَّةً مقارنةً بباقي الفصول الأخرى اسمه فصلُ الضباب.

   يُعتبرُ فصل الضبابِ هذا أهمَّ فصلٍ لتكاثرِ الحيواناتِ و نموِّ النباتاتِ عندهم؛ و نتيجة لما يترتب على ذلك من ازدهار في الإنتاج؛ فقد نشطت التجارةُ وتبادلُ البضائع  ..... طالما كانَ الضبابُ رمزاً للتفاؤلِ عندهم ! ؛ كوكبهم ككوكبكم تقريباً؛ فيهِ القاراتُ و المحيطاتُ ... مقسماً لدولٍ، يقوم على إدارةِ شؤونِ كلِّ دولة منها حاكم.

     أتى وقتٌ قامت فيهِ نزاعاتٌ بينَ بعضٍ من هذهِ الدول، كما نادى أناسٌ بالسلام؛ فتصرفوا مثلما تتصرفونَ أنتم في مثلِ هذه المواقف ... و لكنَّ هذا لم يحصل قبلاً على هذا الكوكب؛ فطالما عاشوا بسلامٍ و حبٍّ منذُ الأزل!

     و في أحدِ الأيامِ ازدادت صراعاتهم، و ازدادَ كرههم لبعضهم. حتى أنَّهم منعوا تبادلَ البضائع فيما بينهم؛ فتدخلت دولٌ شقيقةٌ مجاورةٌ لكُلٍّ من الدولِ المتحاربةِ؛ حيثُ حاولت جاهدةً مصالحتها.

    قاطعتهُ الطفلة :- و من أخبركَ بهذا كُلّهِ؟

    تأففَ القمرُ و أظهرَ لها ضيقه لمقاطعتها له، ثُمَّ أجابَ بصوتٍ جافٍّ خالٍ من الحيويةِ :- صديقي قمرُ ( المَيْل ).

    شعرَ القمرُ بأنَّهُ أخطأ بحقِّ الطفلةِ عندَما غضب منها وردَّ عليها بتلك الطريقة؛ فقالَ ملاطفاً بعدما رأى ابتسامتها الطفوليةَ قد تلاشت :

- أنا أحدِّثُ صديقي قمر ( الميلِ ) عنكم، و هو بدورهِ يحدثني عنهم.

   لم يتابع حديثهُ إلا عندما رأى البسمةَ تعود لشفتي الطفلةِ الصغيرتين، و عندها فقط تابع :- ورغمَ تدخل الدولِ الأخرى لحلِّ النزاعات إلا أنها لم تفلح في ذلك و لم يجدِ تدخلها نفعاً.

غَضِبَ فصلُ الضبابِ منهم و أقسمَ على الرحيل عنهم وعدمِ العودةِ إلا بعودةِ التصالحِ و السلامِ كما كانا دائماً.

   أصرَّت الدولُ المتحاربةُ على حروبها، كما أنَّ الدولَ التي حاولت حَلَّ النزاعِ قبلاً دخلت هي أيضا في حروبٍ انتقاماً من فصلِ الضبابِ الذي قررَ الرحيلَ عنهم، دون أن يعلموا خطورة ما أقدموا عليهِ.....

  بعد مدةٍ قصيرةٍ رحلت باقي الفصولِ إلا فصلُ الربيع؛ المعروفِ بعاطفتهِ و أحاسيسهِ الرقيقة ، و الذي لم يجرؤ على تركهم بلا فصلٍ خوفاً عليهم من الهلاكِ.

     أمّا هم فقد ازدادَ حقدهم وكرههم  لبعضهم، و لامَ كُلٌّ منهم الآخر ، حتى الذينَ كانوا ينادونَ بالسلامِ أصبحوا يقفونَ في وجوهِ بعضهم، و يلقونَ باللومِ على من حولهم...

    استمرَّ هذا الوضعُ وقتاً طويلاً، أدركوا بعده شيئاً فشيئاً سوء ما عملوا ، و حاولوا العودة كما كانوا سابقاً، واجهتهم التحديات و أصيبَ بعضهم باليأسِ، و لكنَّ أغلبهم بقيَ متحمساً لفكرةِ العودةِ للسلامِ كما كانوا دائماً.

    عيَّنوا لكُلِّ شأنٍ في الحياةِ مسؤولاً؛ للغذاء مسؤولاً، و للتعليمِ مسؤولاً، و للتجارةِ مسؤولاً ... و بذلكَ أزالوا الحدودَ بينهم و أبقوا فقط على أسماءِ الدولِ كمواقعَ لا أكثر؛ بتعينهم مسؤولاً عن كُلِّ شأنٍ في حياتهم لم يعودوا بحاجةٍ لحاكمٍ لكُلِّ دولةٍ، التي في الأصلِ لم تعد مستقلةً بحدِّ ذاتها!

     صاروا ينامونَ دون أن يكلّفوا أنفسهم عناءَ إغلاقِ أبوابِ منازلهم؛ فمنذ الآن قد عاد الأمن و السلام، و لن يسمحَ أحدٌ لنفسهِ بسرقةِ منزلِ أخيه، و لِمَ يسرقُ و ما من داعٍ لذلك؟! ........ فأوضاعهم المادية على الكوكبِ بأكملهِ ميسورة وشبهُ متقاربةٍ، حتى الذينَ عيِّنوا ليكونوا مسؤولين ، أوضاعهم ومستوياتهم المادية تتساوى مع وضعِ أيِّ شخصٍ آخرَ في الكوكب!

     لم يكن هنالكَ مسؤولٌ عن كُلِّ هؤلاءِ المسؤولين؛ فقد عَلِمَ كُلُّ واحدٍ منهم أنَّ عليهِ أن يكونَ مسؤولاً عن نفسه قبلَ أن يكونَ مسؤولاً عن الشأنِ الذي عُيَّنَ ليكونَ مسؤولاً عنه.

     مرت أيام وشهور انتظروا فيها عودةَ فصل الضبابِ و باقي الفصول، و لكنَّهم لم يعودوا؛ حزنوا لذلك... أخبرهم الضبابُ أنَّه سيعودُ إذا عادوا لسلامهم و حبهم لبعضهم، و ها هم قد عادوا لما كانوا عليه إلا أنَّه لم يعد... هل عادوا فعلاً !؟ ... لا؛ إنهم لم يعودوا كما كانوا متحابين متآخين؛ وإنمّا اصبحوا أفضلُ حالاً مما كانوا عليهِ سابقاً... لم يجرؤ أحدهم من قبلُ على النومِ و أبوابُ بيتهِ مفتوحة، لكنهم الآن آمنون و يحبونَ بعضهم أكثرَ من قبل.

     لو أنَّ باقي الفصولِ موجودةٌ الآن لحلَّ فصلُ الشتاءِ. أرادَ فصلُ الربيعِ أن يفعلَ شيئاً مميزاً لهؤلاء الأشخاص. فقامَ بترتيبِ أموره ليصبحَ فصلاً مستمراً على مدارِ السنة؛ فأبرقَ و أرعدَ و أمطرَ تعبيراً عن فرحته بهم!

     تنهد القمر و التفتَ للطفلةِ و سألها :- ما رأيكِ بالقصةِ؟

... لم تجب؛ فقد كانت تغرق في نوم عميق يزخَرُ بالأحلام، وقد ارتسمت على فمها ابتسامة هادئة.