العنف المجتمعي

العنف المجتمعي

 

إن من الظواهر المقلقة اليوم ظاهرة ازدياد العنف المجتمعي بكافة أشكاله، وهي ظاهرة دخيلة على مجتمعنا الذي يغلب الخير على أكثر أفراده؛ ذلك لأن العنف مرفوض دينياً واجتماعياً، فرسالة الدعوة الإسلامية ركزت على محو الطبقية، ومساواة الناس في ظل نظام اجتماعي اقتصادي سياسي ينبذ العنف واستقواء القوي على الضعيف، ويجعل ميزان التفاضل ميزاناً واحداً، وهو ميزان التقوى، قال تعالى:"إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، وقال عليه الصلاة والسلام: " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" (رواه الإمام أحمد، المسند، 5/411، رقم (23536)وقال عليه السلام عندما هم الأوس والخزرج بقتال بعضهم بعضا:" ما بال دعوى الجاهلية" (رواه مسلم 8/19، رقم (6748))

ومن هذا المنطلق الإيماني كان للمدرسة دور كبير في تربية الأجيال، وكان للمساجد دور فاعل في غرس القيم والأخلاق والحث على البنيان المرصوص الذي إذا ما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومع ذلك نجد - إذا ما رجعنا إلى البيانات المنشورة في الإحصائيات والنشرات المختلفة - ازدياد عدد حالات أشكال العنف المجتمعي، فمثلا يتضح من ورقة العمل التي قدمها مالك الطوال في الملتقى الوطني الذي عقدته وزارة التنمية السياسية في عمان في الفترة 9-10/1/2010م بعنوان (سيادة القانون: أساس بناء الدولة الحديثة) أن عدد المشاجرات الجماعية التي شهدتها المملكة خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2008م بلغ 468 مشاجرة جماعية في مختلف مناطق المملكة، نتح عنها عشرات الإصابات ومئات الجرحى. كما يتضح من ورقة عمل أخرى قدمها عمران الزعبي حول العنف الجامعي، أن من أبرز أسباب العنف الجامعي وجود مفاهيم ومدركات مغلوطة للعصبية والقبلية والإقليمية بنسبة 84%، وكذلك قلة الوعي والثقافة بنسبة 91%، والواسطة والمحسوبية عند تطبيق الأنظمة والتعليمات في الجامعة بنسبة 74%.

قد يعزو البعض الزيادة في العنف المجتمعي إلى فرضية الازدحام السكاني الكثيف الناتج عن تزايد عدد السكان وما يرتبط بذلك من توترات، واستفزاز، وتنافس بين الأفراد على الموارد المتاحة في الحياة اليومية، والامتيازات، وحق المرور، ومواقف السيارات.... الخ، إلا أن هناك عوامل أخرى تحيط بهذه العامل السكاني وتضاعف من تأثيراته السلبية، منها انتشار ثورة المطالب الاستهلاكية لدى الأفراد بالرغم من النمو في مستويات الدخل الفردي والأسري، وتفاقم الشعور باليأس والهزيمة في بعض مؤسسات العمل لدى عدد متزايد من الناس نتيجة عدم تطبيق الأنظمة والتعليمات بعدالة بما يكفل لهم حقوقهم، إما بسبب تعسف بعض المسئولين، وإما بسبب سطوة الواسطة والمحسوبية في هذه المؤسسات، مما يضعف شعورهم بالانتماء لمؤسسة العمل، ويزيد حدة الإحباط واليأس والغضب لديهم، مما يدفع بهم في لحظة غضب شديد إلى التمرد، والعنف والعدوان بشكل غير متوقع، كما أنه لا يخفى قيام بعض وسائل الاتصال والإعلام بدور ملحوظ في تغذية التوتر والاستفزاز لدى الأفراد في الحياة اليومية، فالموبايل بوصفه أداة لتكرار الاتصالات الأسرية ساعة بعد أخرى، أصبح وسيلة لنقل أجواء المشاحنات الأسرية إلى بيئة العمل، وبعض المسلسلات العربية والمدبلجة تضع المشاهد في عالم من العنف بلا ضوابط، أو قوانين، أو عقوبات، أو اعتبارات أخلاقية.

إن دراسات العنف المجتمعي بينت أسبابه، إلا أنها لم تقدم إلى الآن حلولا واقعية لحوادث العنف بين الأقارب، والمشاجرات الجماعية في بعض القرى، والمشاجرات الطلابية في الجامعات، والأنماط الجرمية الجديدة التي لم تكن مألوفة من قبل.

وبالتالي، فإن معالجة العنف المجتمعي المتزايد يتطلب وقفة جادة من أجهزة الدولة ومؤسساتها من جهة، وأفراد المجتمع من جهة أخرى، وقفة تدعم ثقافة القانون، وتضمن تحقيق العدالة في مؤسسات العمل بمحاربة الواسطة والمحسوبية سواء أكانتا من داخل المؤسسة أم من خارجها، والالتزام بتطبيق الأنظمة والتعليمات بدقة وعدالة، وتتبع الوسائل التي من شأنها التركيز على تدعيم مفاهيم الأخلاق الكريمة في المعاملات، وحسن التعايش، والتسامح، واحترام الآخر، وإتباع لغة الحوار لحل المشكلات، واحترام حق الآخر في الحصول على احتياجاته بكفاية مناسبة تحفظ له كرامته، ووقته، ومشاعره، كل ذلك في إطار من الانتماء الوطني الجامع، والهوية الأردنية الواحدة الموحدة، والمواطنة الحقة التي تضمن المساواة والكرامة للأفراد والجماعات.