إذا كانت الحركة اليهودية الصهيونية قد جعلت من القدس، "حجر سنمار" إيديولوجيتها العنصرية، بما يمكنها من استنبات كيانها العنصري إسرائيل برعاية دولية في قلب الوطن العربي فلسطين، ويحول بالتالي دون توحد العرب في دولة عربية واحدة، فإن القدس ترتبط ارتباطا بعقيدتنا الإسلامية منذ ان خلق الله سيدنا وأبانا آدم عليه الصلاة والسلام، الذي بنت له الملائكة الكعبة، وبعدها بأربعين عاماً المسجد الأقصى الذي اسري بنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراًإليه. وبارك الله ما حوله بقوله سبحانه وتعالي في مطلع سورة الإسراء: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". فالحركة اليهودية الصهيونية وكيانها العنصري إسرائيل يتخذان من صلتهم الدينية المزعومة بالقدس غطاء لمشروع استعماري دولي بامتياز. ولما كان هذا واقع الحال بالنسبة لعلاقتهم بالقدس،فقد بنيت الإيديولوجية اليهودية الصهيونية على هذا الأساس، بحيث باتت القدس بمثابة "حجر سنمار" هذه الإيديولوجية اليهودية الصهيونية الاستعمارية،أي أنه إذا ما جرد الكيان الصهيوني من القدس فإن هذا البناء منهار لا مـحالة. وعليه فإنهم عملوا بكل ما لديهم من قدرات وامكانيات على تزوير حقائق التاريخ بما يخدم هذا المشروع الاستعماري اليهودي الصهيوني. ولهذا فإن من الطبيعي أن يتشبث الكيان الصهيوني إسرائيل،السلطة القائمة بالاحتلال، بتكريس احتلاله للقدس . ولهذا رفعت الحركة اليهودية الصهيونية وعلى لسان قادتها العنصريين، وفي مقدمتهم ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لهذا الكيان شعار:"لا معنى لإسرائيل دون النقب ولا معنى للنقب دون القدس". ويقينا إنه لا يغيب عن أذهان المهتمين بالصراع الصهيوني العربي، ومحوره القضية الفلسطينية ودرتها القدس، أن العصابات المسلحة التي أعلنت قيام الكيان الصهيوني في الخامس عشر من أيار عام 1948م قد استماتت من اجلاحتلال الشطر الشرقي من المدينة المقدسة. ولكن جلالة الملك الشهيد عبد الله بن الحسين اتخذ قراراً تاريخياً من أجل الدفاع عن القدس ومقدساتها، وأصدر أوامره إلى الجيش العربي الأردني، ضباطه وجنوده الأبطال، للاستبسال والتضحية،وقد تمكن هؤلاء الأبطال من إفشال جميع محاولات قوات الاحتلال الصهيوني، والحيلولة دون تمكينها من بسط سيطرتها علي البلدة القديمة، رغم التفاوت الكبير ما بين قوات العدو المهاجمة والقوات الأردنية المدافعة عن البلدة المقدسة وما تحتضنه من مقدسات إسلامية ومسيحية على حد سواء. ولكن الكيان الصهيوني لم يتخل عن فكرة استكمال احتلاله للقدس باحتلاله للبلدة القديمة، لما لهامن أهمية في الحيلولة دون انكشاف حقيقة مزاعمه الاستعمارية، ليس للعرب الذين أدركوها، وإن هم لم يتعاملوا معها بالجدية المطلوبة وبالقدر المتكافئ مع خطورة الإيديولوجية الصهيونية وموقع القدس فيها، بل للمغرر بهم من اليهود والدول التي صوتت لصالح تقسيم فلسطين، بضغط من الدول العظمى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية صاحبة المصلحة باستنبات هذا الكيان في قلب الوطن العربي فلسطين. فكانت حربه العدوانية التوسعية ضد مصر والأردن وسوريا في الخامس من حزيران عام 1967م سبيله لتحقيق ما عجز عن تحقيقه في حرب عام 1948م ووسيلته لاستكمال احتلال القدس باحتلال شطرها الشرقي. وما أن احتلت قوات الكيان الصهيوني البلدة القديمة حتى شرعت في تسوية حارة المغاربة بالأرض، وهدم المنازل على رؤوس من لم يغادروها باعتراف احد جنرالات اسرائيل، في كتاب له حول مذكراته عن حرب عام 1967م، وهدم السور الفاصل ما بين شطري المدينة، وسن العديد من التشريعات القاضية بتوحيد شطري المدينة وصولاًإلى ضمها وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية للكيان الصهيوني إسرائيل، وفقا لقانون باطل ومُلغى سمي بـ: "قانون أساسي القدس" في30تموز 1980م، والمباشرة بزرعها بالمستوطنات الاستعمارية بحيث بات المستوطنون مع سكان الشطر الغربي من القدس يشكلون 68% من مجموع سكان القدس البالغ عددهم نحو (800000) نسمة بينما يشكل العرب نحو 32% فقط. ومع أن قانون الاحتلال يفرض على الدولة المحتلة عدم التغيير في الطبيعة الديمغرافية للبلد المحتلة أرضه، فان سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تأبه بذلك، ولا بجميع قرارات الشرعية الدولية، قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وهي بالمئات التي اعتبرت جميع قرارات وإجراءات إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، باطلة وملغاة وطالبت اسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، والانسحاب دون قيد أو شرط من جميع الأراضي المحتلة بما في ذلك القدس؛وهي محتلة بكاملها وفقا لقرار الجمعية العامة 181/1947م،أما عن قرارات الأمم المتحدة الصادرة بعد حرب عام 1967م فابتدأت بقرار مجلس الأمن 242/1967م فقرار 338/1973م ثم صدر قرار الجمعية العامة الأخير برفع العلم الفلسطيني على سارية الجمعية العامة بعد أن قبلت فلسطين دولة غير عضو( مراقب). كما شددت هذه القرارات على وجوب ان تلتزم إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال، بجميع الاتفاقيات الدولية، وأبرزها اتفاقيتا لاهاي لعامي 1907مو1954م واتفاقيات جنيف الأربع وبخاصة الرابعة منها لعام (12/آب/1949م) المتعلقة بحماية المدنيين في وقت الحرب، وبمبادئ وقواعد القانونين الدولي والدولي الإنساني وبميثاق الأمم المتحدة والمبادئ التي تضمنها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى فتوى محكمة العدل الدولية بخصوص جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل وذلك بطلب من الجمعية العامة والتي قضت بقرارها تاريخ 9/تموز/2004م بعدم شرعية الجدار بإجماع الأصوات باستثناء صوت القاضي الأمريكي، وطلبت إلى إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، تفكيكه فوراً وتعويض المتضررين منه.كما طلبت إلى الدول الأعضاء إلزام إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بتنفيذ هذه الفتوى التي تبنتها الجمعية العامة في قرارها رقم 10/15 في 20 تموز/2004م. هذا القرار الذي اعتبره الكثيرون من رجال القانون الدولي، وفي مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، رئيس اللجنة الملكية لشؤون القدس، واحداً من أخطر القرارات في تاريخ القضية الفلسطينية وذلك لسببين: الأول: الطبيعة الكاشفة لهذا القرار؛ بمعنى أنه لم ينشء حقا بل كشف عنه من خلال مراجعة شاملة للقضية الفلسطينية، ولقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وللقواعد الحاكمة للاحتلال ، ومبادئ القانون الدولي والدولي الإنساني، وميثاق الأمم المتحدة والمبادئ التي تضمنها. الثاني: الطبيعة الآمرة لهذا القرار؛ بمعنى أنه ملزم لكافة الدول الأعضاء بما في ذلك وقبله إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، التي لا يجوز لها التذرع بعدم إلزاميته، فهو يقع في إطار قواعد القانون الدولي الآمرة باعتباره حجة على الكافة لا يجوز مخالفته حتى من الدولة المعنية بالأمر. وتجدر الإشارة في هذا السياق أيضاً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/123 تاريخ 16/12/1982م وأصله مشروع قرار مقدم لمجلس الأمن من المجموعة العربية بمبادرة من الجمهورية العربية السورية بسبب إعلان إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، ضم الجولان، وفشل مجلس الأمن في إقراره بسبب الفيتو الأمريكي والذي شجبته الجمعية العامة في جميع القرارات التأكيدية اللاحقة الذي نص على أن إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، هي دولة غير محبة للسلم، وهو الأساس الذي قبلت بموجبه عضوا في الأمم المتحدة بناء على توصية من مجلس الأمن. وهذا يعني قانونياًأن الكيان الصهيوني فقد شرعيته وأن إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، دولة مارقة. وقد جاء فيهذا القرار التاريخي ما نصه: "1: تقرر مرة أخرى أن سجل إسرائيل وإجراءاتها تثبت أنها ليست دولة عضواً في الميثاق، وأنها لم تقم بالالتزامات المترتبة عليها بموجب الميثاق أو بالالتزامات المترتبة عليها بموجب قرار الجمعية العامة 273 (د-3) المؤرخ في 11 أيار/ مايو 1949. 2:تطلب مرة أخرى إلى جميع الدول الأعضاء تطبيق التدابير التالية: أ. الامتناع عن إمداد إسرائيل بأية أسلحة أو معدات متصلة بها ووفق أية مساعدات عسكرية تتلقاها إسرائيل منها. ب. الامتناع عن اقتناء أية أسلحة أو معدات عسكرية من إسرائيل. ج. وقف المساعدات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية لإسرائيل ووقف التعاون معها. د. قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والثقافية مع إسرائيل. 3:تكرر طلبها إلى جميع الدول الأعضاء أن تكف على الفور، فرادى ومجتمعة، عن كل تعاون مع إسرائيل كي تعزلها عزلاً تاماً في جميع الميادين. 4:تحث الدول غير الأعضاء على التصرف وفقاً لأحكام هذا القرار. 5:تطلب إلى الوكالات المتخصصة والمنظمات الدولية الأخرى أن تمتثل في علاقاتها مع إسرائيل لأحكام هذا القرار".
وها هي المقدسات الإسلامية في القدس تتعرض اليوم لأخطر حملة تهويدية بقيام المستوطنين الإرهابيين بحراسة وحماية قوات الاحتلال الإسرائيلية باقتحامات يومية للمسجد الأقصى وتدنيسه، والاعتداء على المصلين بالضرب، ومهاجمتهم بقنابل الغاز المسيل والدموع ، واعتقال المرابطين والمرابطات ومنعهم من دخول الأقصى وكذلك المصلين، واعتقال الأطفال رغم الوعود التي أعطوها للأردن ولجلالة الملك تحديداً بأن يتوقفوا عن انتهاك حرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، واحترام البند التاسع من معاهدة السلام مع الأردن التي تعهدت فيه إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، باحترام الدور الخاص للأردن برعاية الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس. وقد جاءت اتفاقية الوصاية الهاشمية الموقعة في عمان من جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين والرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤكدة لهذا الحق الهاشمي التاريخي الذي يحرص جلالة الملك عبد الله على النهوض به رغم ثقل المسؤولية التاريخية،وعدم وفاء اسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال،بتعهداتها، وشراسة سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين الاستعماريين. وفعلا فان تشبث الأردن بهذا الحق يبدو جليا لكل ذي بصر وبصيره من خلال تصميم جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله على عدم تمكين سلطات الاحتلال الإسرائيلي وإرهابييها المستوطنين، وتحذيره المتكرر لحكومتها بأن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والمسجد الأقصى بخاصة خط احمر، ولا يمكن القبول بتقسيمه مكانياً أو زمانياً تحت أي ظرف من الظروف، مطالبا المجتمع الدولي مراراً وتكراراً بضرورة التزام إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بالوفاء بتعهداتها والاتفاقيات المعقودة معها وبتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، كان آخرها خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28/9/2015م جاء فيه: "التسامح لا يقبل التطرف الذي ينمو على حالة اللامبالاة لأصحاب الفكر المعتدل، لكن الاعتدال لا يعني قبول من يسيئون للآخرين ويرفضون كل من يختلف معهم. وحربنا العالمية اليوم ليست بين الشعوب أو المجتمعات أو الأديان، بل هي حرب تجمع كل المعتدلين من جميع الأديان والمعتقدات، ضد كل المتطرفين من جميع الأديان والمعتقدات، وعلى قادة الدول والأديان والمجتمعات جميعاً ان يتخذوا موقفاً واضحاً وهذا يشمل احترام جميع أماكن العبادة من مسجد أو كنيسة أو كنس. ولامكان أهم وأكثر تأثيراً لتجسيد الاحترام والتعايش من مدينة القدس، حيث الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية واجب مقدس، وهنا نضم صوتنا إلى المسلمين والمسيحيين في كل مكان رافضين التهديدات التي تتعرض لها الأماكن المقدسة والهوية العربية لهذه المدينة". هذا ما أثار حفيظة إسرائيل، ودفع بكتابها إلى مهاجمة الأردن بلداً وشعباً وقيادة وملكاً مهددين بطرق التفافية ولكن مباشرة إلى تحويل الأردن إلى وطن بديل. ولكن عليهم ان يعوا حقيقة ان الأردن أكثر ثباتاً ورسوخاً واستقراراً من كيانهم المصطنع، وان للأردن شعباً وجيشاًوملكاً قادرين على دحرأي عدوان ووأده في المهد من أية جهة جاء. فالقدس بمقدساتها الإسلامية والمسيحية لنا، وستعود لنا عاجلا أم آجلاً. وما على قادة هذا الكيان إلا أن يقرأوا تاريخ القدس جيدا؛ فكم من الأمم الغازية تعاقبت عليها ولكنها عادت لتحتفظ بهويتها العربية والإسلامية، رغم جميع ما قامت به سلطات الاحتلال الاسرائيلي من تشويه للطبيعة الحضارية والديموغرافية لهذه المدينة المقدسة لدى العرب، مسلمين ومسيحيين على حد سواء.
|