لعل من أكثر مجالات التفسير و الدراسة للقرآن في عصرنا الحالي الإعجاز العلمي في القرآن لأننا نعيش عصرآ كثرت فيه العلوم و المعارف التجريبية وغيرها، و لاءم ذلك أن يخاطب القرآن العقل بما يدل على عظمةالخالق. و من باب "أولم تؤمن بلى ولكن ليطمئن قلبي "، علما بأن العلوم التجريبية الحديثةليست لإثبات صدق القرآن, فالقرآن كتاب الله الذي لا ريب فيه، ولكن إن صحت نظرية علمية و وجد ما يدل على صحتها في القرآن حكمنا أيضا بصحتها، علمابأن هذا الباب أو المجال في التفسير يقتضي - كسائر الأبواب - أن يتوخى المفسر الحذر الشديد و يعمل بدقة شديدة و ضوابط محددة، و لا يلوي معنى آية قرآنية ليوافق نظرية فالنظريات قابلة للتغير و كتاب الله صادق محفوظ. (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايُؤْمِنُونَ )سورة الرعد آيه (1). وقد أمرنا الله تعالى بالتفكر في خلقه لنصل إلى نتائج هي : 1. الإيمان به إلهاً خالقاَ واحداَ. (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) سورة الأنبياءآيه(30). 2. و بالتالي الإيمان بالبعث,( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سورة العنكبوت آيه (20). 3. ثم لنصل إلى الخشية فيرق القلب بين يديه تعالى وتتجلى معاني أسمائه الحسنى في القلوب ، فتخشع في صلاتك، و تسمو في كل تحركاتك, (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِمَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَايَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)) سورة فاطرالآيات (27-28). وبناء على ما تقدم سنسعى في هذا البحث إلى تحقيق هذه الأهداف بنظرة تفكر و تدبر و تأمل في آية من آيات القرآن العظيم بدراسة جانب الإعجاز (العلمي) فيها، و هي قوله تعالى : "رب المشرقين ورب المغربين" . إن جذر كلمةالشرق هو (ش, ر. ق) و قد ذكرت تصنيفاتها في القرآن في عدة مواضع تبلغ سبعة عشر موضعاً , المشرق ستة مواضع , المشارق ثلاثة مواضع, مُشْرِقِين موضعان و المَشْرِقَين موضعان و الكلمات التالية موضع واحد ( أشرقت, شرقيا, شرقية, الإشراق). و قد ارتبطت الكلمات بتحديد الجهات الجغرافية شرق غرب شمال جنوب، و في هذا تعيين الوقت وهو من أهم العناصر في حياة الإنسان. ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سورة يونس الآية (5) و تتوقف حياة الكائنات الحية فوق هذا الكوكب على شروق الشمس وغروبها، حيث يترتب على ذلك توالي الأيام و الشهور و الفصول نتيجة لدوران الأرض حول الشمس في فلك بيضاوي، و دورانها حول محورها و ميلان محورها 23.5 درجة, مما يؤدي إلى أن تختلف زوايا المشارق و المغارب في أيام السنة و فصولها اختلافا متدرجا يُلحظ أكثر عند الإنقلاب الصيفي و الشتوي, و هذا ما يفسر معنى مشرق و مغرب و مشارق و مغارب. و لكن استوقفني بشدة لفظُ المشرقين و المغربين، قال بعض المفسرين هما مشرق الشمس عند الإنقلاب الشتوي و مشرقها عند الإنقلاب الصيفي, وفسره بعضهم بشروقها في نصف الكرة الشمالي و النصف الجنوبي حيث يكون في الشمال صيفا و في الجنوب شتاء, بل فسر البعض ذلك أن هناك كواكب لها شمسان, و كل ذلك صحيح, و لكن هلكان هذا المعنى هو المقصود في آية القرآن التي حوت كلمة مشرقين وكلمة مغربين؟. من روعة القرآن وعظمته أن يفسر القرآن بالقرآن, وكذلك بالمصدر الثاني للتفسير وهو السنة النبوية و إن اجتمع كلاهما في تفسير آية أعطيا معنى لا ريب في صحته . وكُنت في ليلة أتلو سورة الزخرف و استوقفتني فجأة آيات كأنما اقرؤها للمرةالأولى, (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَبَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) ) سورةالزخرف الآيات(36-38) وهنا تساءلت؛ أيعقل أن يتمنى من أضله الشيطان (سواء شياطين الإنس أو الجن), وكان له قرينا ملازما فأرداه في جهنم , أيعقل أن يتمنى لو كان بينهما في الدنيا بُعد يصل إلى ما يقارب 12 ألف كيلو متر أو بعض الكيلو مترات؟, بل أعتقد أنه سيتمنى لو كان البعد بينهما لا نهائياً موغلا في البعد كأنما لم يرهُ أبدا, إذاً لابد أن توجد هناك مسافة تبدو لا نهائية بين مشرق أول و مشرق ثاني ,و هنا تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, (حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا عبد الواحدحدثنا أبو زرعة حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) اللفظ للبخاري حديث رقم 4269, ( وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال في العلامات الكبرى للساعة: إن أولى الايات خروجا طلوع الشمس من مغربها أو الدابة على الناس ضحى فأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها) صحيح مسلم. إن عمر الأرض الآن بحسب تقديرات العلماء خمسة آلاف مليون سنة، أي منذ خمسة آلاف مليون سنة و الأرض تدور حول محورها من الغرب إلى الشرق،فتظهر الشمس من جهة سميناها الشرق فتتوالى الأيام و الأسابيع و الشهور. و ذكرالله في كتابه الحكيم أن عدد الشهور إثنا عشر شهرا يوم خلق السموات و الأرض و لم يذكر عدد أيام السنة تحديدا, (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَاعَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَاأَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ......... (36)) سورة التوبة , و دلت دراسات علماء الجيولوجيا للأحافير الحيوانية والنباتية التي استهدفت تقدير عمر الأرضأن هناك أدلة على أن السنة كانت إثني عشر شهراً منذ بدء تكون الأرض و 56 أسبوعاً و أربعة فصول, و لكن عدد أيام السنة في ذلك الحين كان أكثر بكثير من عدد أيام السنة في وقتنا الحالي، ممايعني أن دوران الأرض حول محورها في بداية تكون الأرض و على مدى عصور كان أكبر بكثير مما هو عليه اليوم، ثم أخذت الأرض في التباطؤ التدريجي حتى قُدر عدد أيام السنه منذ 600 مليون سنة ب 425 يوماً , و منذ 450 مليون سنة ب 415 يوماً , و منذ حوالي 200 مليون سنة 385 يوماً , بل يرى العلماء أن عدد أيام السنة في بداية تكون الأرض قبل تصلب قشرتها كان 2200 يوم، و أن الليل و النهار معا كان مقدارهما اربع ساعات فقط، وما ذاك إلا للسرعة الهائلة التي كانت تدور فيها الأرض حول محورها، و لازالت تتباطأ حتى وصلت إلى 365,25 يوم, ( 365 يوماً و 5 ساعات 49 دقيقة و 12 ثانية ) كما هو معرف الآن , ولا زالت الأرض تتباطأ بمعدل 1/1000 من الثانية في كل قرن، مما حدا بهم إلى استنتاج أن الأرض سوف تضطر إلى التباطؤ إلى درجة تجبرها على عكس دورانها فتشرق الشمس من المغرب, إذاً سوف يصبح المشرق مغرباً و المغرب مشرقاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم, فيكون لدينا مشرقان أحدهما منذ خمسة آلاف مليون سنه ، و آخر آتٍ و لا يستطيع أحد أن يتنبأ متى يكون هذا إلا الله تعالى، و لا يستطيع أحد أن يفعل ذلك إلا الله تعالى, ولو أنعمنا النظر في القرآن الكريم لوجدنا حتمية هذا الحدث, أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة البقرة آيه (258) لقد كان التحدي الكبير الذي تحدى به سيدنا إبراهيم عليه السلام الملك أن الله يأتي بالشمس من المشرق فليأت بها من المغرب فلابد أن ياتي الله بالشمس من المغرب، ليعلم أن من خلقها تشرق من المشرق، هو من أتى بها من المغرب، فأصبح المغرب مشرقا و المشرق مغربا، فكان سبحانه رب المشرقين ورب المغربين، و بذلك يصدق تمني من لم يؤمن في الدنيا و عمي عن رؤية الحق الواضح كالشمس بسبب قرينه الخناس، فيقول له ياليت بيني و بينك بعدالمشرقين ياليتك بعدت عني خمسة آلاف مليون سنة أو كما أراد الله تعالى. إضاءات وتدبر: الموضع الأول الذي ذكر فيه المشرقان والمغربان في القرآن كان في سورة الزخرف كما أسلفنا، فلنتأمل سبل النجاة من العذاب ( و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) ابقِ لسانك رطبا بذكر الله و ابقِ عينيك ناظرة في كتاب الله تاليا له وعقلك متفكرا به، و أركانك عاملة بأوامره منتهية عن نواهيه فتكون لك الجنة بإذن الله تعالى فالقرآن هو حبل النجاة . الموضع الثاني في سورة الرحمن تأمل في موقع الآية فقد وقعت بعد الخلق للإنس و الجان, (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) ) سورة الرحمن . هنا يرشدك القرآن إلى أن أهم شيء في حياة كل من الإنس و الجان الإتجاه إلى قبلة يعبدون بها الله تعالى، و صلاة تنظم أوقاتهم و تؤكد استسلامهم التام لله و فقرهم إلى إحسانه. قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِمَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) سورة النمل الآيات (59-60).
|