الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد ...إن علماء المسلمين الذين قادوا العلم وقادوا الحق والفكر والكلمة، وبلغوا مبلغ الأمانة والفقه والورع من الكثرة والوفرة بحيث يصعب احصاؤهم، إنهم علماء بذلوا قصارى جهدهم في تفقيه المسلمين وحملهم على اتباع الحق، فهم الذين حملوا مشاعل النور على مدى الزمان، ليصلحوا الأمة ويعيدوها إلى الاستقامة كلما أرادت الانحراف حتى اصبحوا أنموذجاً يحتذى به، فلنتعرف على عظمة هذا الدين وهذه الشريعة من خلال مسيرتهم، ونتعلم منهم كيف صبروا وأخلصوا النية في طلب العلم، وكيف زهدوا في الدنيا وأجلوا العلم وما اذلوه لسلطان أو مال! .. لعلنا نقتدي بهم ...ومن العلماء من أظهرهم الله تعالى لحكمة أرادها، ولعل من أوفرهم حظاً من الشهرة الأئمة الأربعة (أبو حنيفة النعمان، مالك بن أنس، محمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل)، فعلى أيديهم تتلمذ الناس، وألفت الكتب وأسست المذاهب، وقد يسر الله لهم من تلاميذهم النجباء من حملوا علمهم ونشروا مذاهبهم،بحيث اصبحت مدارس يحتذى بها على مدى التاريخ وإن كان هناك من ينافسهم في المكانة والشهرة والقدرة.ونحن عندما نتحدث عن سيرة الأئمة الأعلام من باب فضلهم، ومكانتهم، وعلمهم لا من باب التعصب لمذاهبهم، فهم قدوة لمن يريد أن يقتدي بهم،وبداية سنبدأ الحديث عن واحد من أعظم وأول هؤلاء الأئمة هو الإمام أبو حنيفة النعمان.هو الإمام النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه الفقيه الكوفي، وهو أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة وصاحب المذهب الحنفي، ولد في الكوفة سنة ثمانين للهجرة ونشأ فيها وتوفي في بغداد.عمل أبو حنيفة بالتجارة في بداية حياته وأكثر من التردد على السوق، وحدث له التحول إلى العلم وهو شاب، حتى مر يوماً على الإمام الشعبي (وهو أحد أئمة الإسلام الكبار المشهورين)، فقال له الإمام الشعبي: "إلى من تختلف"، فقال: "اختلف إلى السوق"، فقال: "لم أعن الاختلاف إلى السوق"، عنيت الاختلاف إلى العلماء"، فقلت له: "أنا قليل الاختلاف اليهم"، فقال لي: "لا تغفل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة، وهمة، وذكاء، أظن أن التجارة لن تشبعها"، قال: "فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت العلم، فنفعني الله بقوله".تفقه الإمام أبو حنيفة على يد أستاذه الاول، حماد بن أبي سليمان، ولازمه إلى أن مات، وقد لازمه ثماني عشرة سنة حتى سن الأربعين، ثم عمل بالدرس والبحث، وتولى حلقة شيخه حماد بعد ذلك، وكان مع ملازمته لشيخه قد لاقى غيره من الفقهاء، وكان يتتبع التابعين أينما كانوا، حتى قيل أن مشايخه من التابعين أربعة الآف شيخ منهم: (الليث بن سعد، ومالك بن أنس، وعطاء بن أبي رباح، وعبدالله بن أبي اوفى، وسهل بن سعد الساعدي، وأبو الطفيل بن عامر).وأخذ أبو حنيفة يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية ويقيس الأشياء وما شابهها، حتى وضعت الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي الذي يستمد مصادره الفقهية من القرآن الكريم والسنه النبوية الشريفة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف والعادة. ومن أشهر تلاميذه أبو يوسف بن ابراهيم، وهو الذي نشر المذهب الحنفي وأول من كتب فيه، ومحمد بن حسن الشيباني وهو الذي دون المذهب الحنفي، وزفر بن الهذيل، وعبيدالله بن المبارك، ووكيع، وغيرهم كثير. من أهم كتب المذهب الحنفي (المبسوط) المعروف بالأصل، وكتاب (الجامع الصغير)، و(الجامع الكبير)، وكتاب (الزيادات)، وكتاب (السير الكبير)، الذي طبع شرحه للسرخسي، وكتاب(السير الصغير)، وكتاب(الآثار)، وكتاب(شرح معاني الآثار)، وكتاب(حاشية ابن عابدين)، وكتاب(المبسوط في الفقه للسرخسي) .كان الإمام أبو حنيفة صاحب علم غزير وسيد الفقهاء في عصره، مخلصا في طلب الحق، يرجع عن رأيه اذا ذكر له مناظره حديثا لم يصح عنده غيره ولا مطعن له فيه، وكان يقول: "قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا"، قال فيه الإمام الشافعي:"من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه"، وقال شداد بن الحكيم: "ما رأيت أحدا أعلم من أبي حنيفة" وقال مكي بن ابراهيم:"كان أعلم أهل زمانه"، وقال عبدالله بن المبارك: "لولا أن الله عز وجل أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس".عرف عن أبي حنيفة أنه كان ورعا تقيا كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، كثير العبادة، قال عبدالله بن المبارك: "ما رأيت أحدا أورع من أبي حنيفة ولا أحسن سمتا منه" وقال القاضي أبو يوسف: "كان أبو حنيفة يختم القرآن كل ليلة في ركعة".وقال عنه ابن عيينه: "كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاة، وأعظمهم أمانة، وأحسنهم مروءة".وعرف أبو حنيفة بقوة الشخصية والنفوذ والتاثير والمهابه، شديد الذب عن محارم الله، طويل الصمت، دائم الفكر، لا يذكر أحدا إلا بخير، قال مسعر بن كدام واصفاً مجلس أبي حنيفة مع أصحابه: "كانوا يتفرقون في حوائجهم بعد صلاة الغداة، ثم يجتمعون إليه فيجلس لهم، فمن سائل ومن مناظر ويرفعون الأصوات لكثرة ما يحتج لهم، إن رجلا يسكن الله به هذه الاصوات لعظيم الشأن في الاسلام ".تعرض الإمام أبو حنيفة لمحنتين. الاولى: في عصر الدولة الأموية عندما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك وكان الإمام أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت محنته بهروبه إلى مكة ووجد في الحرم المكي أمناً، وعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، حتى تولى العباسيون الخلافة، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور حيث تعرض للمحنة الثانية عندما طلب منه أبو جعفر المنصور تولي منصب قاضي القضاة فامتنع عن ذلك، وأخذ يناصر خروج محمد النفس الزكية بن عبدالله بن الحسن وأخيه ابراهيم بن عبدالله، وكان ذلك يبدو على لسانه في حلقة درسه وبين تلاميذه، ويخالف المنصور في غاياته عندما يستفتيه ولا يقبل عطاياه، فحبسه المنصور إلى أن توفي في بغداد سنة مئةً وخمسين للهجرة ودفن في مقبرة الخيزران في بغداد وبُني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم.يلقب أصحاب المذهب الحنفي بأهل الرأي، لأن الحديث كان قليلاً في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه. وقد انتشر المذهب الحنفي في أكثر البقاع الاسلامية فكان في مصر والشام وبلاد الروم والعراق وما وراء النهر والهند والصين.
هاتف 5355000/فرعي 23688
فاكس من داخل الجامعة 23686
ص.ب 11942 عمان - الأردن
E-mail: islamiccenter@ju.edu.jo